
آسيا جبار، الوفاء لأكثر من لغة
المؤلف: الأستاذ بودومة عبد القادر
المؤسسة: شعبة العلوم الانسانية، جامعة تلمسان
مخبر البحث : الفينومينولوجيا وتطبيقاتهابجامعة تلمسان
البريد الالكتروني: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لا يعلمنا النص شيئا؛ لأنه لا يلزمنا بأي شيء، فهو يمنح لنا نفسه كهبة. هبة متعذر الظفر بها ممتنعة عن كل تملك، نسيج كلمات ينفلت عن التحديد أو التعيين، إذ لا يكفي الذهاب إلى نصوص آسيا جبار للمرة الأولى مثلا لامتلاك فهما لما تكتبه من أعمال روائية .فالأمر وعلى خلاف ذلك يتطلب ممارسة الرؤية في الجمع (رؤى)،إن تتابع الرؤى بإمكانه منحنا و باستمرار القدرة على اكتشاف المعنى.
إن النص ال"جباري" بقدر ما يهب كله لأول وافد ، بقدر ما يلزمه بالترحيب داخل ضيافة لا مشروطة، منجزين لحظتها ضيافة أنطو-إيتيقية تحمل استراتيجيات صارمة تمكننا من الوقوف و بثبات على أرض موسومة بالانحدارات و الانعراجات الخطيرة. إذ ليس سهلا على أي قارئ الذهاب إلى النص ال"جباري" و هو مفرغ من الحمولة المعرفية و من التجارب الأنطولوجية الكفيلة بجعله يمشي فوق أرض نصها من دون أية خشية. إن أرض النص الجباري هي أرض المتاهة، لهذا يتطلب وجود قارئ مسكون بالتيه، قارئ يسير دون العلم إلى أين تأخذه قدماه. فسر الهبة مسكون بالحيرة لذا كان ضروريا المباشرة في مبادرة ضيافة النص ال"جباري" ، و مع الترحيب الذي قد نتلقاه منه عبر ضيافة أخرى أكثر جذرية يكون قد فتح أمامنا منفذا للتفلسف .و هذا ما نحن بصدد إنجازه من خلال إدراج نص أسيا جبار ضمن الاشتغال على النص الروائي من موقع التجربة الفلسفية.
إن التوغل بداخل النص ال"جباري" عبر هذه التجربة يمنح إمكانية فهم سر لانهائية النص حيث يصير كل من النص و قارئه داخلا. لا نقصد بالداخل مجرد محايثة Immanence و إنما "الداخل-الخارج" Dedans-dehors أو المحايثة الترانساندانتالية التي بإمكانها أن تجلي ما لا يتجلى، و منه نكون أمام إنتاج معرفي ضخم لحظة قراءتنا للنص ال"جباري"، فلو أخذنا مثلا سؤال اللغة و علاقته بالانتماء أو اللاتعيين الموسومة به الهوية لدى أسيا جبار . فإننا سنتمكن من فتح أفق آخر لسؤال جزائرية الجزائريين تنتابني رغبة، تقول آسيا جبار:" في تسليط الشمس على لغة الظل التي هي عربية النساء، ذلك لأن كامل دراما الثقافة الجزائرية تنهض على هذا السبيل في إقحام لغة رسمية و وحيدة هي عربية السلطة، وسيط للأيديولوجية المرتدة"(1) فعلى الكاتب الجزائري أن يقاوم بواسطة استخدام اللهجة غير الرسمية و غير المشفرة، أي لغة الظل، الظل الراقص، اللغة التي قد تكون مزيجا من البربرية الليبية، العربية و الفرنسية، و الممزوجة داخل لغة رابعة تقول عنها آسيا جبار بأنها لغة الجسد، حيث وسيلة النساء إلى العثور على الهوية من جديد"(2).
تتماثل جزائرية أسيا جبار مع الجسد، صورة الجزائر المرأة تنجز عبرها تحويلا للغزو العسكري إلى عملية اغتصاب جسدي فاحش: "المدينة تظهر للمرة الأولى في دور امرأة شرقية، غامضة بلا حراك حيث تندمج مع علاقة متكافئة بين الفتح العسكري و الرغبة الجسدية، و تصير المرأة الجزائرية كتابة عن الجزائر المستباحة. لماذا تبدو هذه الحملة الأولى على الجزائر و كأنها ترجع أصداء مضاجعة فاضحة ؟ حيث ينبلج فجر هذا اليوم سيتقابل فيه الفريقان وجها لوجه، ماذا ستقول النسوة لبعضهن البعض ؟ أية أحلام رومنتيكية ستتوهج إلى قلوبهن ؟ و كأن الغزاة جاؤوا على هيئة عشاق"(3) لقد وضعت آسيا جبار نفسها موضع الكاتبة المنتمية في كليتها إلى الجزائر، حتى و إن كانت تكتب دائما داخل لغة الآخر و التي صارت من خلالها "الآخر-لغة" L’autre-langue، أي الغيرية الجذرية التي نعبر عنها ب"كتابة الأنوثة" ذلك لأنه كان على آسيا جبار نسج نوع من التوافق مع تاريخ بلدها و مع ذاتها الجزائرية تجاه عربية مؤنثة تكتب بالفرنسية عن النساء الجزائريات اللواتي لا يتكلمن إلا العربية الجزائرية و عن رجال عرب حجبوا عن النساء حق الكلام بأصالة عن أنفسهن
نجد آسيا جبار تؤكد في عملها "الحب الفنتازيا": أن اللغة التي جهد والدها نفسه كثيرا كي ما تتعلمها ها هي الان تعمل الآن كوسيط لسرد هويتها و هي منذ الآن تشكل علاقة مزدوجة متناقضة تهيمن على عمادتي في الحياة"(4) و للغة الفرنسية علامة مزدوجة لأنها جزء من ازدواجية السلطة البطريركية، الأب الذي يريد لابنته أن تتعلم الفرنسية من جهة: "طفلة عربية تذهب ذات صباح خريف لأول مرة إلى المدرسة يدها بيد والدها، هذا الأخير كان معلما بالمدرسة الفرنسية ...طفلة عربية من قرية بالساحل الجزائري"(5) لكن يمنع عنها من جهة أخرى أن تقرأ بالفرنسية رسالة حب كتبها شاب مراهق فيقوم الوالد بتمزيق الرسالة مؤكدا: "لا ريب في أن كل عذراء سوف تتعلم قراءة و كتابة مثل هذه الرسالة الملعونة" . و عبارة الأب كما يشير الناقد السوري "صبحي الحديدي" تدخل في سياق فعل الكتابة و في منطق السياج الاجتماعي الذي يحيط به خصوصا حين توضع في خدمة محرم محدد كالحب، سوف تحين الساعة يقول والد آسيا جبار في رواية "الحب و الفنتازيا" لهذه العذراء ليكون الحب الذي يكتب أكثر خطورة من الحب الذي يخبو خلف جدران موصدة(6).
مع آسيا جبار سنكون أمام عملية " تناول الكلام" de parole Prise عبر الكتابة. هذا ما تقرره كتابتها في محاولتها اختراق و تحويل محرمات المجتمع الجزائري. فهي تكتب الكلام، تكتب ما امتنعت عن قوله، إنها تكتب كتابة الكلام لتكون بذلك قد أنجزت كتابة مغايرة حينما منحت للغة وجهها المختلف، كتابة معكوسة، و هذا ما جعلنا نؤكد أن آسيا جبار تمثل بالنسبة إلينا منعطفا في نضج الأدب الجزائري، اكتمال نضج كتابة بلغت خمسين عاما من العطاء و لا تزال، خمسون عاما من تحرير الكلام و تمزيق صورة المرأة التي تكتفي بالصراخ و النواح و التأوه فقط. المرأة لدى آسيا جبار لا تصمت و إنما تكتب صمتها و معها أدركنا بأن ما لا يمكن قوله لا ينبغي السكوت عنه، بل يجب كتابته. هكذا ربما كانت و لا تزال كتابة آسيا جبار تعلمنا أن ننجز كلاما داخل ما هو مكتوب .
إن للنص الجباري أصوات متعددة و مختلفة لا يمكن الكشف عنها إلا داخل ما تم اكتشافه بداخلها. و إذا كان النص يعبر عن صمت الكلام ممثلا في الكتابة فإنه بإمكاننا التأكيد على أن آسيا جبار لم تصمت كي تصمت، و إنما صمتت كي تتكلم عبر الكتابة. فصارت هذه الأخيرة صيرورة للكلام عينه لتكون بذلك آسيا جبار قد أنجزت ما لم ينجزه غيرها حتى من أقرنائها الكتاب داخل التجنيس ألذكوري الذين كثيرا ما فضلوا الصمت السلبي، مثال ذلك "مالك حداد" الذي فسر البعض صمته بأنه عشق للغة القومية (العربية) إلى درجة أن بعض النقاد و الكتاب جعلوا منه شهيداللغة العربية وهذا ما عبرت عنه "أحلام مستغانمي" في روايتها "ذاكرة الجسد" حينما كتبت إهداء له تقول فيه: " إلى مالك حداد...ابن قسنطينة الذي مات متأثرا بسرطان صمته يصبح شهيد اللغة العربية و أو كاتب يموت قهرا...و عشقا لها...أهدي هذه الرواية وفاء متأخرا"(7).
تنفلت آسيا جبار و بجرأة من الصمت المفروض عليها من داخل مجتمعها، فهي لم تتراجع على ما تكتبه باللغة الفرنسية بل ذهبت باللغة ذاتها إلى أبعد الحدود حيث أفق العالمية. إن ما حققته آسيا جبار من فتوحات داخل اللغة الفرنسية لم تحققه أية كتابة من ذي قبل و هذا ما جعلها تحمل مآسي وطنها لتكتبه مرحا و تعطره بعبق الأمل و الآمال: "في عشق هذا الكتاب المحمول بالأصوات التي تحاصرني Ces voix qui m’assiègent يبرز صوتي الخاص ك"تناول للكلام" و ينكتب محاولا و عبر هذه السنوات الصاخبة التي تعكس تراجيديا وطني لحماية الثقافة الجزائرية فقط التي تراءت لي أنها في خطر"(8) خطورة يعكسها فعل التنقيل للغة المنجز من قبل آسيا جبار و الذي مكنها من السفر بهموم وطنها إلى حيث جغرافيات يجهلها الكل، حتى أبناء وطنها، حتى أولئك الذين رأوا في تكريمها حظوة داخل الأكاديمية الفرنسية أنه لم يكن إلا تنازلا منها للفرنسيين و كأنها بذلك وقعت في مأزق العطاء السلبي، عطاء مقابل عطاء آخر Don contre don و هذا ما أكدت عليه الأستاذة "عائشة كاسول":" لم أقل أن آسيا جبار ليست جزائرية لكن يجب أن نتفق جيدا مع المفاهيم لأنه بمجرد أن نضع مفهوما خارج السياق يتغير معناه، فمسألة الهوية و الطريقة التي توظفها آسيا جبار تعجب كثيرا الفرنسيين خاصة المثقفين منهم، خطاب الأديبة حول الهوية و قضية المرأة و القول بان المرأة الجزائرية مقهورة خطاب يخدم الفرنسيين و يستغلونه كمبرر بأن هذا البد (الجزائر) بحاجة إلينا و هذا ما يفسر إلى حد بعيد دخول آسيا جبار إلى الأكاديمية الفرنسية(9).
مثل هذه التوجهات المغذية للصراع تورط النص الجزائري الجاد و تسد عنه المنافذ للوصول إلى القارئ الجزائري. إن النص ال"جباري" يفضل دوما أن ينكتب عبر استعارة تعكس مدى تألقه و تنقله نحو تعدد مكان لا يرتبط بالضرورة بالوطن. إن حركة النص ال"جباري" هي حركة جسد صاحبه، فعبر المشي داخل المدن المجهولة ستنتج معرفة خصبة موعودة بالتأسيس للغة، تحمل غفرانها و تسامحها يتغذى منها أجيال قادمون. إن لغة آسيا جبار هي لغة بعدية Langue posthume تدرك جيدا استحالة تحقيقها لكنها تدرك في آن معا انه من الممكن التكلم و الكتابة بها و هذا ما فضلنا نعته بإيتيقا الضيافة و الصداقة المنجزة داخل اللغة كما تبرز عطاء الكتابة في بعدها الأنطولوجي و الذي يعكس بدوره عمق الذات الرحيمة المحبة للاختلاف مع ضد الذات.
هذا ما تعلمنا إياه حتما متون آسيا جبار القوية باستراتيجياتها التي تتماثل أولا مع الأركيولوجياArchéologie حينما تنجز حفرا داخل طبقات الذاكرة النسّاءة، "و عاداتي كمشاءة في مدن المغرب الكبير لرؤية الضوء و الظلال و لكن للبحث أيضا في الوجوه و نتف الكلام و المفروقات في اللهجة ففيما يخص عملي "حبيسات في بيوتهن" (رواية نشرت سنة 1980) ليس لي إلا أن أتذكر طفولتي و مراهقتي و بعض قريباتي. فحيثما كنت موجودة أستطيع الكتابة من دون توقف عن هذا الانحباس، في حين أنني كما بينت ذلك في فرانكفورت بمناسبة حصولي على جائزة للسلام بأنني:" ما كنت لأدخل بشوق عارم...إذا لم أكن قد سرت في شوارع مدن كمجهولة، و عابرة و روائية. إن كتابة السرد بالنسبة إلي هي لغتي المتحركة، يعني السير في الخارج"(10) و تتماثل ثانيا مع الجينيالوجيا Généalogieحينما تحاول إعادة التأسيس للغة و لهوية هذا الوطن جاعلة منه هوية لغوية لا غير . و تتماثل أخيرا مع التفكيك Déconstruction حينما ترفض التورط في تجنيس الكتابة متناولة اللغة من الداخل بحيث تنجز تفكيكا لمركزيتها محاولة بناء لغة أخرى تنعتها بلغة الجسد.
هذا ما يجعلنا نعتقد بقوة و صرامة النص ال"جباري" : فصار بمثابة الأرضية الصلبة للبحث و للدراسة فما ندركه و نحن ذاهبون إلى متون آسيا جبار هو أننا أمام مخبر لتجربة الكتابة، مخبر يمنح لنا إمكانية الكشف عن وهم وهشاشة السياسات اللغوية و حتى الفكرية المنهزمة التي تبنتها الدولة الوطنية. لقد تراجعت، تقول آسيا جبار أمام الكلمات المكتوبة، الكلمات التي تعلمت، فحين أكتب و أقرأ بلغة الآخر فإن جسدي يسافر إلى فضاء تدميري. الكلمات التي أستخدمها لا تعكس واقع من لحم و دم، و جميع ما تعلمته من قراءة وكتابة يقذف ني نحو موقع ثنائي الانقسام و ضربة الحظ هذه تضعني عند حافة الانهيار(11)
علينا التأكيد إذا بأن موقف آسيا جبار من اللغة العربية لم يكن أبدا ضد هذه اللغة و إنما كان تحديدا ضد ما توجهات الدولة الوطنية من تعريب فوري لبعض المواد مم أثر سلبا على الحركة الثقافية الناشئة في الجزائر و هذا ما عبر عنه بدقة المفكر مصطفي الأشرف حينما قال: "و لكن من المستغرب بعد هذا أن نسمع بعد حصول البلاد على الاستقلال مباشرة من يدعي بأنه يمكن بين عشية و ضحاها و بدون أي جهد عقلاني في الإعداد مع التكوين يمكن خلق جيل كامل من الأعوان و المعلمين و الأساتذة المتخصصين في مختلف علوم الإنسان و في مختلف فروع الثقافة، علما بأن اللسان العربي و الثقافة القومية ضلا مدة طويلة من الزمن محرومين من حرية التعبير و من مسايرة التقدم العلمي في أبسط صوره"(12) وهذا ما جعل الأدباء يقررون المنفى و على رأسهم آسيا جبار التي رأت ضرورة نفي كتاباتها و الذهاب إلى الخارج و الذي شكل ربما مأساة ثقافة الوطن .حيث تسرع المسئولين في وزارة التربية في تبني النموذج المعمول به في فرنسا داخل الأقسام المخصصة لأبناء المغتربين و إلى بعض شباب فرنسا مما لديهم ضعف في قدراتهم الذهنية،و هذا النموذج من التكوين كان مخصصا إلى التلاميذ المنحدرين من مناطق اجتماعية محرومة مع العلم أنه كانت له أهداف متمثلة في منحه للأطفال ترسانة لغوية ضعيفة بحيث لا يمكنهم من الاندماج داخل المجتمع الفرنسي بصورة لائقة و لا يمكنهم أن يكونوا رصيدا معرفيا يمكنهم من التفوق الدراسي.
انطلاقا من هذا النموذج السيئ تم وضع النصوص الرسمية لتدريس اللغة العربية في الجزائر، فتشريع 1965 كان جد واضح فيما يتعلق: الإقرار في تعليم اللغة العربية مرتبط فقط باللغة الشفهية، لغة المخاطبة و الحوار، و ليس لغة الكتابة و من ثمة إزاحة اللغة العربية المكتوبة و الهدف الوحيد الذي تم رسمه لتلامذتنا كما تقول مليكه غريفو:" هو فهم الحوارات البسيطة الواضحة(13) إن الثقافة الجزائرية في معناها الواسع لن تضم إلا تعدد لغوي مشكل من ثلاثة حقول أساسية: حقل اللغة العربية الكلاسيكية أو المكتوبة، حقل الفرنسية، و حقل التعبير ألشفاهي (البربري)، حقول يؤكد مصطفة الأشرف إنها لا تتواصل فيما بينها إلا داخل اعتراف كل واحدة منهما بالأخرى، و منه ينبغي و لأجل تحديد المشكل موقعة و بصورة جيدة امتداد هذه الحقول و قدراتها الإنتاجية(14) .
إن هوية اللغة ال"جبارية" تؤسس من داخل الاختلاف الأنطولوجي و ليس أبدا من داخل الاختلاف الهوياتي . لأن التعدد اللغوي المطروح بكيفية شعرية فائقة يمنع عنا إمكان إدراجه ضمن قراءات نظرية لنص، أو ضمن القراءات الألسنية التي تفضل محاصرة النص داخل أقبية الجامعات و أقسام التكوين. لكن وحدها التجربة الفلسفية بإمكانها منحنا فرصة فهم ما يحمله الخطاب الأدبي و تحديدا النص الجباري من انطولوجيا. فعندما تشير آسيا جبار في عملها "الحب، الفنتازيا" إلى ماهية اللغة فإننا وجدناها تمنح لها بعدها الاستعاري الفائق في الشعرية:' للرجل الحق في أربع زوجات شرعيات و لنا نحن الصبايا الراشدات أربع لغات للتعبير عن رغباتنا غير الحق في التأوه و الأنين. اللغة الفرنسية من أجل المكاتبات السرية، و اللغة العربية من أجل رغباتنا المخنوقة في الوصول إلى الرب صاحب الكتاب، و اللغة البربرية الليبية التي تردنا إلى الآلهة الوثنية و الأمهات الإلهات في مكة قبل الإسلام، أما اللغة الرابعة الخاصة بجميع الجنس المؤنث، بالصبايا و العجائز المحجور عليهن و أنصاف المتحررات، فهي لغة الجسد، ذلك الجسد الذي يريد أبناء العم و أعين الجيران الذكور أن يكون أصم و أعمى"(15) إن اللغة الرابعة التي تقترحها آسيا جبار تلزمنا بإنجاز نوع من التنقل ولانزياح على مستوى الاشتغال على النص من جهة و على مستوى التعاطي المنهجي معها في آن معا. و هذا ما مكننا كما أشرت سالفا من فتح النص الأدبي الجباري على التجربة الفلسفية لفهم كنه الأنطولوجي، الإستطيقي، و حتى الإيتيقي. باعتبار إن التجربة الشعرية تحمل القدرة على القفز بين النصوص، الفلسفة المسافرة، بتعبير نيتشه، و الرحالة بتعبير دولوز، لهذا نكتشف و بفضل ما تمنحه لنا تجربة العبور إلى حيث النواحي Passage au parage الأدبية و الشعرية و الفنية و حتى الفلسفية من إمكانات فهم متعدد للنص المكتوب داخل لغة مختلفة من قبل آسيا جبار التي حاصرها النقاد و جعلوا من مضامين نصها مجرّد سير ذاتية و ذاكرة تاريخية غافلين عن ما تحمله من حمولة ميتافيزيقية حينما يطرح نفسه كمخترق ومحول للعديد من التيمات الأدبية و التي قرئت بصورة نسقيه كتيمة الجسد الهوية الصوت و الكتابة.
و هذا ما جعلنا نؤكد تميز ما تكتبه آسيا جبار بخلاف الكتابات الأخرى. إن ما تكتبه لم يكن أبدا يعكس القول بوجود لغة طبيعية يتم إرضاعها للأطفال كي ما يتمكنوا من التواصل بها إذا ليس ثمة لغة طبيعية تقول آسيا جبار، و حتى و إن كنا نتكلم داخل اللغة العربية فإن هذه اللغة لم تكن أيدا لغة الأم، و نفس الشيء بالنسبة للغة الفرنسية و الأمازيغية، فالاعتقاد الذي سترسمه الكتابة ال"جبارية" هو القول بالتعدد اللغوي حتى و إن كنا نتكلم داخل لسان واحد و حديث آسيا جبار عن كونها واحديه اللغة لا يعني أنها صارت كائنا مستلبا بالرغم من كونها تجد نفسها ملزمة بثقافة و قانون اللغة المضيفة. إلا أنها تؤكد على ضرورة السير بهذه الأحادية نحو تعددية تشكل بدورها اللغة الموحدة: "لكن اليوم يعرف كلامي حضوره، و كلامي هو اللغة الفرنسية، طبعا كان من الممكن أن يعرف هذا الكلام ظهوره في نبرات أخرى، في العربية، أو عند الاقتضاء داخل لغة أخرى، فإنه لن تبقى على الأقل إلا كتاباتي في نصها الأصلي الذي لن يكون إلا فرنسيا(16). كتابة واحدة و لغات متعددة.
هكذا يبدو صوت آسيا جبار داخل ثقافة مزدوجة و أحيانا بإمكاننا القول داخل أكثر من ثقافتين في حين ليس لها إلا كتابة واحدة، لهذا نعتنا ما تنجزه آسيا جبار من أعمال بكتابة الكتابة، إنها لا تكتب إلا الكتابة لكونها لا تحمل قضية معينة و لا تتماثل مع هوية محددة تحاول نسج من خلالها خطابا مسكونا بالأصولية و الانغلاق، ذلك لأن الأمر لا يتوقف بالنسبة إليها عند حدود ما تكتب و إنما عند عتبات اللغة التي تكتب، إنها تكتب اللغة، و ليست اللغة هي التي تكتبها . هذا إذا افترضنا أن اللغة مؤسسة على مركزية ذكورية في بعدها الماهوي و هذا ما يؤكد عليه بالفعل أصلها الإغريقي المنحدر من كلمة "لوغوس" الذي يحمل التباسا في معناه، فهو الكلمة و العقل، القانون. أما الكتابة فلن تكون إلا أنثوية الماهية.
لقد حاولت آسيا جبار الكتابة باللغة العربية لكنها أدركت أن هذه اللغة المكتوبة لن تكون أبدا لغة الأنوثة و إنما كانت لغة "الفحولة" ،هذه اللغة و منذ قرون عدة و داخل ثقافة رسمية وقفت هي الأخرى كلغة مسيطرة و هذا ما جعل آسيا جبار و أمام قرار اللغة ألذكوري ، الالتفات إلى كتابة من نوع آخر و هي "كتابة الرؤية" Ecriture du regard ومثلما تنعتها في عملها المعنون ب "هذه الأصوات التي تحاصرني" بالسفر إلى السينما بحيث سيحقق لها سينما الشعر التي تحررها من ابتذال الواقع: "سينما الشعر ! في الواقع هي معبودة الواقعية، و إذا كنت قد اخترت أن أكون مخرجة سينمائية و في الوقت نفسه كاتبة فلأن التعبير عن هذه الواقعية بالرموز هو نفسه ما يحدث بالكلمات، فضلت وسيلة التعبير التي هي السينما، التعبير عن الواقع بالواقع..."(17).
ستختار إذا آسيا جبار "كتابة الرؤية" محاولة اختراق استلابها الذي تعاني منه و المتمثل في استلاب اللغة الفرنسية، ربما كان ممكنا إنجاز تحرر فعلي من الاستلاب الذي يميز كتاباتها من خلال لغة عدو الأمس أو داخل لغة الأخر، لغة السيد La langue du maître : "رفضت أن تدخل اللغة الفرنسية إلى حياتي الحميمية، السرية ، لأني شعرت بأنها العدوة. الكتابة داخل هذه اللغة و القرب أيضا من الذات صارت لحظتها اللغة الفرنسية مشروعا خطيرا"(18) لكن بإمكاننا الانفتاح من خلال تصريحات آسيا جبار على السؤال التالي: إذا كانت واحديه اللغة هي دائما واحديه لغة الآخر بالنسبة إليها فما هو ذات أو موضوع هذا الاستلاب ؟ و ما الذي صار فعلا مستلبا ؟ هل استلاب يتعذر عن فك هيمنته و امبرياليته الممارسة علينا ؟ لن يكون لهذه الأسئلة إلا إجابة واحدة مشكلة منها عبارة واحدة: إذا استطعت ابتكر إذا لغتك. أو أنك تريد فقط الإستماع إلى لغتي، ابتكر إذا استطعت. طبعا الأمر لا يتعلق بلغة الآخر و لا بلغة أخرى، حتى و إن افترضنا أنه ثمة لغة أصلية فسوف لن تكون أبدا اللغة المقصودة بفعل الابتكار، فالأمر يرتبط بالنسبة إلينا بلغة لا-لغة Langue a-langue لغة غير موجودة أو لنقل على الأقل لغة لم تتواجد بعد، إنها بتعبير آسيا جبار اللغة الراقصة، لغة الجسد، إنها الكتابة. وليست اللغة بالمعنى المقدم من قبل الألسنيين و البنيويين، فإذا كانت اللغة المعتادة حسب هؤلاء تشغل مهام التواصل فحسب فإن لغة آسيا جبار هي لغة الاختراق Transgression و لغة التحول Transformation ، هذا ما نعتناه باللغة "الكورغرافية" La langue de la chorégraphie و هي اللغة التي ينعتها" دريدا" باللغة الأولى و لا تعني الأولى هنا أنها سابقة، أي أننا لا نفترض بأنها تمثل الأصل ذلك لأن هذا الأخير يتواجد في كل مكان ذلك لأن مكانه هو اللا-مكان بتعبير دريدا A-topique أي لا موقع له. ذلك لأننا لا نقابل لغة بلغة أخرى من حيث الامتياز والأفضلية فكل لغة هي أولى و أصيلة بالنسبة إلى أهلها لهذا نجد أنفسنا نسير نحو ابتكار لغتنا الخاصة و التي هي لغة الكتابة.
ال"كورغرافية" اللغوية المفترضة من طرف آسيا جبار ترى فيها اللغة الجديرة بالإنسان الجزائري، اللغة التي تشمل المثقف و الإنسان العادي، لن تكون هذه اللغة بالنسبة إلينا إلا جمعا داخل فرق، لغة تقيم حيث التعدد. و إن أي حديث عن هوية بعيدا عن هذا التعدد لاطائل منه. الجزائري و إلى غاية اللحظة لم يتمكن من نسج لغته بحيث تتوافق و جزأرته Algérianité أو لنقل بتعبير "هلين سكسوس" Hélène Cixousو"ألبير ميمي"Albert Memmi مع "جزأ رويته" Son Algériance المفقودة و التي هي بالنسبة إلينا موعودة لكونها تحقق إمكان اللاممكن، إن اللغة المقترحة من قبل آسيا جبار تعكس بدورها حقيقة الفرد الجزائري في بعده الماهوي بعيدا عن كل طرح سياسي أو ديني أو عرقي إلى درجة أننا رأينا فيه نوع من الانفتاح الأنطو-إيتيقي على الذات الحقيقية للكائن الجزائري. إن تاريخنا تقول آسيا جبار مسكون بثلاثة لغات و خارج هذه التعددية لا يمكن أبدا الحديث عن هوية وطنية و ترى أن في مزج هذه اللغات نتمكن من ابتكار اللغة الرابعة:
اللغة الأولى: تلك اللغة التي ورثناها في الفترة البربرية، لغة قديمة تضرب جذورها إلى زمن يوغرطا، إنها اللغة الليبية البربرية Lybico-bèbère وهي في الغالب متمردة و متوحشة.
اللغة الثانية: لغة الكتاب المقدس و الصلوات الخمس لغة الرسول محمد في كهفه يستمع و يرى جبريل يتحدث إليه، إنها اللغة العربية أخت الدارجة Dialectale.
اللغة الثالثة: هي لغة سادة الأمس الذين انتهى أمر وجودهم على أرض الجزائر بعد أن تواجدوا عليها أكثر من قرن، رحلوا و تركوا ظلالهم، لنقل أنها لغة لغة فرانك Langue de franc (19) لن يحدث إذا تأسيس لهوية جزائرية إلا عبر الإقرار و الاعتراف بالاختلاف الجذري و الماهوي في أن معا، الحاصل داخل اللغة عينها، إن الاختلاف المؤسس من قبل آسيا جبار يقيم داخل الهوية و هي بدورها تسكنه، فالاختلاف بالنسبة إلى الهوية يمثل الخارج الترانساندانتالي و الهوية بالنسبة إلى الاختلاف يمثل الداخل المحايث لهذا تغدو هوية لغتنا هي الاختلاف عينه، الاختلاف المؤسس للذات الجزائرية، اختلاف رحيم، غفور و اختلاف مرح مترنح لا يثبت على قرار و إنما قراره الفرار والاستنفار. لهذا لم يكن منفى آسيا جبار اللغوي منفى إجباري و إنما كان قرارا قصد التمكن من اكتشاف ذاتها بذاتها، و هذا ما نعته دريدا بالاختلاف مع/في الذات و هذا ما يعلمنا إياه النص ال"جباري"، أن ننشئ اختلافنا مع ذاتنا و في ذاتنا باستمرار.
هنا بالذات يبرز ما تسميه آسيا جبار باللغة الرابعة المؤسسة في اعتقادنا بالاختلاف الأنطولوجي الذي لا يتحقق إلا بالعودة إلى الوراء بتعبير هيدغر، "الاختلاف المنجز خطوة إلى الخلف، الخطوة التي تفضل الذهاب و الانطلاق من ميتافيزيقا مركزية كي تتمكن من نسج ماهية الميتافيزيقا عينها"(20) الخطوة المنجزة من قبل آسيا جبار من حيث رجوعها إلى تاريخ هوية هذا الوطن لم تكن خطوة تذكرية فحسب أو استرجاعية إنما كانت خطوة تأسيسية. إن العودة إلى الخلف بهدف التأسيس لهوية حقيقية ولقد تمكنت من بلوغ هذه اللحظة في لغتها الرابعة ، التي تجعل منها اللغة المميزة للكنه Identification الذات الجزائرية، إذ و عبر إحداث التزاوج بين لغات ثلاثة تكون لحظتها أمام لغة رابعة موسومة بما يلي: الاختناق، الهذيان، الترنح، التيه، الجنون والوثب. توصيفات لجسد يكتب قدره و مصيره، جسد يكتب حركاته الأنطولوجية، جسد مكتوب برقصات الجسد ذاته (الجسد هنا لغة مكتوبة):
Parfois son asphyxia أحيانا اختناقه
et son délire و هذيانه
SES tâtonnements de mendiant ivre ترنحات سكر متسول
Son élan fou تيهه، الجنون
d’infirme soudain يلغيه فجأة (21)
لن تكون لغة الجسد إلا هوية لأبناء هذا الوطن، هوية ماهيتها الاختلاف. إن الهوية لدى آسيا جبار لا تحمل أبدا دلالة وطنيا تبة و لا حتى دينية، إنها ليست مجرد شعار يتم ترداده في المناسبات الوطنية بل هي أكثر من ذلك، هي فرار، ضياع، هي حيث يقيم البرزخ Entre-deux أي حينما لا ندرك ما نحن عليه، لهذا نحن أسيا جبار تشير إلى مقولة ل "برنار ماري كولتس" B.M.Koltes و التي أشارت إليها في آخر عمل روائي لها الموسوم بـ"ضياع اللغة الفرنسية" Disparition de la langue française الصادر سنة 2003 الجزائرية الضائعة : إلى أي وطن انتمي ؟ ! أين تتواجد أرضي ؟ أين الأرض التي أستطيع أن أنام عليها ؟ في الجزائر أنا غريبة و أحلم بفرنسا. في فرنسا أنا أيضا أكثر غرابة و احلم بالجزائر، هل الوطنية هي المكان حيث لا نتواجد(22) فسؤال اللغة في تعددها و إمكانية بلورة لغة موحدة لهذا الوطن يطرح بكثافة في جل أعمال آسيا جبار خاصة في عملها الأخير فقد اللغة الفرنسية و نعتقد أنها رواية جاءت كنتيجة للمعادلة التي توصلت إليها في عملها "الأصوات التي تحاصرني" حيث أثارت في آخره عبارة جد مهمة و هي التي تقول فيها "يجب أن يضيع كل شيء، هل ينبغي أن يتم فقد كل شيء في جزائر اليوم" tout doit-il disparaître dans l’Algérie actuelle .
يلامس سؤال اللغة عموم النص الجزائري و بالأخص نصوص آسيا جبار التي لم تنف أبدا ضرورة الإبقاء و الحفاظ عليه. إن الأرض التي تبحث عنها الجزائر و الموعودة هي بالنسبة إليها أرض تناول الكلام Prendre la parole و "هبة الكلام" Donner la parole "ينظر إلى اللغة (اللغات) على أنها طريقة للإنصات و الاستماع و الكلام و الكتابة، هذه اللغة (اللغات) المترجمة هي بالنسبة للعديد من المفكرين و الكتاب و الأدباء أرض موعودة Une terre promise"(23). لقد صار الكاتب الجزائري مشتت اللغة لأنه مشتت الأرض فحينما كان كتابنا يلتقون في أرض المنفى، تقول أحلام مستغانمي:" يبادرون مساءلة بعضهم البعض عن الأرض التي أتى كل واحد منها(24) هكذا عبرت أحلام مستغانمي عن الذات الجزائرية المبدعة التي تجد نفسها تنتمي إلى الوطن صوريا لكونها تقيم في المنفى، إراديا أحيانا و إجباريا أحيانا أخرى. منفى لم يعد حكرا فقط على أولئك الذين يكتبون داخل اللغة الفرنسية و إنما أصبح يشمل كل كاتب و كل مبدع جزائري، مهما كانت طبيعة الانتماء الماهوي إلى اللغة فالكل صار معنيا في زمن الدم و الرماد، زمن تراجيديا الوطن بالقتل و المنفى و لم يستثنى أي أحد من الكتاب.
لم يعد و الأمر على هذا الوضع لأحد إمكان أن يزايد على الآخر عندما يتعلق الأمر بالانتماء أم لا إلى الوطن و ليس ثمة مبرر لما ذهبت إليه آسيا جبار في آخر عمل أدبي لها حينما أكدت على أنه و منذ : " نهاية نوفمبر 1993 بدأ يفر الفرونكوفونيون من الجنسين و باختلاف وظائفهم، صحافيين، أساتذة، نقابيين، أطباء بصورة غير منتظمة من بلادهم إلى فرنسا شأنهم في ذلك شأن المورسيكيين الأندلسيين و يهود غرناطة حينما تركوا هذه الأخيرة بعد سقوطها 1492 متجهين حيث الضفة الأخرى(25). رحلوا و تركوا الوطن لأنه لم يعد يعدهم بالأمان و لم يعد قادرا على حمايتهم و على منحهم السكينة و الأمل ، فضلوا الترك و الهجران في الأرض.
لهذا سترتبط الهوية الجزائرية اشتقاقا بالبعثرة و الشتات Dissémination et diaspora. أليس اسم الجزائر دال على عين التسمية المقترنة بمجموع الجزر المشكلة لها، في البدء كان اللابدء إذ لم تعد ثمة ضرورة من الحديث عن بدء البناء فبدء البدء هو اللابدء، أي بدء التشتت و البعثرة لكنه لابدء محمول بمرحه التراجيدي قادر على أن يشكل أنطولوجية الذات الجزائرية الرافضة للخراب و الدمار، معيدا لجسدها بهاءه المفقود، و المشكل لعناصر إبقاء الحياة و هذا ما تنعته آسيا جبار باللغة المترنحة الراقصة في جسد تركبه حركات الجنون و يشكله الهذيان و الفرار و التيه
مذ زمن بعيد
دوما بين جسد و صوت
و هذا الترنح للغة
داخل حركة ذاكرة للانغراس
...الكتابة شق
للطريق(26)
يد أنثوية تكتب مرح وطنها و فرحه الأبدي داخل تراجيديا هي الأخرى أبدية، لن تكون الحياة بالنسبة إليها جميلة إلا عندما تنسج بنفسها اللحظات الجميلة، كتابتها من هوية الكتابة عينها حزنت لما آل إليه الوطن من جراء المأساة، قتل و ذبح الجزائري لأخيه . راحت تكتب من داخل العتمة فرح وطنها الموعود لتصير الكتابة الجبارية مسكونة بلغة الأمل و الآمال، أن تمنح لأبناء وطنها الأمان.
هنا يكمن الدور الأنطولوجي للكتابة ، فنحن ملزمون بإفساح الأمكنة، كل الأمكنة لآسيا جبار، و الاستعداد لسماع صوتها و بالتالي الكف عن رؤية صورتها و الإصغاء فقط إلى كلامها، لم يعد صوتها عورة و لم يغدو جسدها مستباحا من قبل قطاع الطرق و القراصنة لم تعد ذلك الكائن الباحث عن المكان الذي يمكنها من إسماع صوتها للآخرين، بل صارت كل الأمكنة مكانها فلقد تماثلت و تطابقت مع المكان منذ زمن و هي تحلق، تبدع، تبتكر وتوجد لنفسها عوالم جديدة، عوالم الإمكان بعد أن كانت ممتنعة عن الظهور و البروز.
ها هي ترسم عمق جوهر ملامح الوطن، وطن هو الآخر موعود بالمغايرة و الاختلاف، يعدنا بهوية مختلفة و بلغة مغايرة، لا يجد فيه حراس العقيدة والنوايا فيه أي مكان. الاختلاف مع/ضد الذات في آن معا، بشعرية تتخيل أماكن واسعة تتأمل بعمق الذات الجزائرية مؤسسة المعابر و المنافذ لإنقاذها من أزمة رسخ جذورها أولئك المحمولين بخطابات الحقد و الكراهية، خطابات دوغمائية، أصولية يدعي أصحابها امتلاك الشريعة و آخرون يدعون امتلاك الشرعية. و بين هذا و ذاك نسج الجزائريون خطاب القتل و الإرهاب فمنعوا عنا رؤية بهاء جسد وطننا موعودا بالمرح و العطاء والتسامح والغفران.
لم تعد آسيا جبار في اعتقادنا و من خلال ما تنتجه من أعمال أدبية فائقة الروعة، مجرد امرأة تريد تحقيق مطالب تقليدية. لقد أدركت أن مثل هذا السلوك كان مجرد هدر للوقت و ضياع للماهية الأنثوية، فكفت عن المطالبة بأحقيتها في الكلام و صارت الكلام عينه. فهي حتى و إن صمتت، لم يكن صمتها انسحابا ، بل اختارته كإستراتيجية يمكنها من الانفلات من الرقابة البنوبتيكية الممارسة على جسدها من قبل أفراد ينكرون أحقيتها في أن تصير كاتبة مبدعة. علينا إذا و خلاف ذلك الاستماع إلى صوتها المتعدد. إنها صوت يعد بغد فردوسي ، لم تعد الكتابة ال"جبارية" مقترنة بنجاحات مؤقتة و لا بفتوحات دونكيشوتية كما لم تعد بحاجة إلى شهرزاد ألف ليلة و ليلة كي تصل إلى هدفها بل صارت قادرة في ليلة واحدة بلوغ ذلك ولم يعد الموت يخيفها بل صارت تكتب موتها و تقول غيابها، المهم أنها أصبحت تتكلم لغة مختلفة، لغة تقيم حيث الاختلاف الجذري، تستعير منه الاستعارات الجديدة تمكنها من العبور من ضفة إلى ضفة أخرى، فهي الجزائرية المغاربية الإفريقية المتوسطية الأوروبية، تصغي لصوت الأرض بشاعرية. تشق بنفسها طريق بصيرتها و حكمتها، تنسج نصها بألوان جميلة و في نسجها تضع الكلمات المليئة بالمعنى.
لقد تمكنت آسيا جبار و عبر الكتابة من أن توجد لنفسها ميادين جديدة ليست كتلك التي ألفت التردد عليها و الوقوف عندها و من السذاجة الذهاب مع بعض النقاد الذين حاولوا اختزال و هدر أحقية المرأة على إنتاج المعرفة، لم يعد الأمر على ما كان عليه، كل شيء نحو تحول يسير . لم يكن بدء الكتابة للمرأة الجزائرية مترقب و متوقع، لقد كان خارج الزمن بتحديداته الكرونولوجية، وحتى وإن كان عملنا يرتكز على ما كتبته في زمن الدم والرماد، أي في فترة التسعينيات فلم يكن أبدا الإقرار منا بأن الكتابة بدأت تعرف نضجها و إنما هي محاولة للتأكيد على شق للطريق نحو لغة قادرة على استيعاب تشتت و اختلاف الجزائر.
-----------------------------------------------
الهوامش
01) voir Assia djebar in le monde diplomatique le 18 avril 1995
02) صبحي الحديدي : الهجرة الثانية أسيا جبار ،أهداف سويف و منفى الجسد و اللغة مجلة نزوي العدد 06
03) Assia Djebar : l’amour, la fantasia .roman, Maroc Edition Eddif 1992 p 16
04) Assia Debar ; ib id p 12.
05) Assia Djebar : ibid. p 15.
06) انظر صبحي الحديدي المرجع السابق.
07) أحلام مستغانمي : ذاكرة الجسد رواية دار موفم للنشر الجزائر 1993 انظر الإهداء.
08) Assia Djebar : Ces Voix qui m’assiégent Paris Edition Albin Michel Essai 1999 voir L’Avant propos
09) عائشة كاسول : جبار تنازلت للفرنسيين جريدة الجزائر نيوز العدد 448 جوان 2005 ص 12.
10) أسيا جبار : ذاكرة النساء آليات أرمل حوار بالمجلة الأدبية الفرنسية ترجمة الشاعر الجزائري حكيم ميلود مجلة نزوي العدد :34.
11) Assia Djebar : Ces voix qui m’assiégent opcit p45.
12) مصطفى الاشرف :الجزائر الأمة و المجتمع ترجمة حنفي عيسى المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1983 ص 418.
13) Mohammed Ben Rabah : Algérie les traumatismes de la langue et le rai In Revue Esprit juillet 1997 p 19 et voir aussi Baudalia Greffou : L’école algérienne d’Ibn Badis a Pavlov .Alger Laphomic 1989.
14) Moustafa Lacheraf : L’Avenir de la culture algérienne. In les Temps modernes n : 09 octobre 1963 p 722.
15) Assia Djebar : l’amour, la fantasia : op cit p 207
16) Assia Djebar : Ces Voix qui m’assiégent ibid. p 41.
17) Assia Djebar : ibid. p 159.
18) Laurence huuch : Ecrit sous le voile, romancière algérienne francophones, ecréture et identité Paris Edition Publisud 2001 p 42.
19) Assia Djebar : Ces Voix qui m’assiégent ibid. p55 et 56.
20) Voir Martin Heidegger : identité et différence in Question 1 traduire de Lallemand par Jean Beaufret Paris Edition Gallimard 1968.
21) Assia Djebar : Ces Voix qui m’assiégent ibid. p 55.
22) Assia Djebar : la disparition de la langue française roman Paris Edition Albin Michel 2003.
23) Eric Crépon les promesses de la langue Paris Edition J Vrin 2001 p203.
24) أحلام مستغانمي : ذاكرة الجسد رواية سبق ذكرها.
25) Assia Djebar : la disparition de la langue française : ibid
26) Assia Djebar : Ces Voix qui m’assiégent ibid. p 11.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 15 أوت 2022