
المرأة الشاوية...ذاكرة الأوراس
المؤلف : الأستاذة بن سهلة أمينة
المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة خنشلة
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث : الفلسفة وتاريخها بجامعة وهران2
تعرف منطقة الأوراس أو بلاد الشاوية بموروثها الثقافي الغني، وبالعادات، والتقاليد المتنوعة التي غالبا ما تشكل المادة الخام لعدة دراسات سوسيولوجية، وتاريخية، وأنتروبولوجية...حيث تشمل اللباس الشاوي الخاص بالمرأة الشاوية، واللباس التقليدي للرجل الشاوي، الحلي التقليدية، المطبخ الأوراسي، الفن الشاوي، العرس الشاوي أين تقوم المرأة الشاوية بدور المنشط في الحفلات بالزغاريد، والرقص، ويكفي حضورها ليأتي الرجال بالعجائب في الفروسية أثناء السباق، ودقة إطلاق البارود، وسرعته لتتصدره المرأة الشاوية..."[1]، كيف لا وهي الملقبة ببنت البارود...فلا يمكن فهم حقيقة المجتمعات إلاّ من خلال معرفة حال المرأة فيه، تلك هي قاعدة البحث في الدراسات السوسيولوجية، والفلسفية، والأنتروبولوجيا الحضرية التي تقوم على الرجوع إلى دراسة، وفهم القبائل، والمجتمعات المتوحشة لفهم صيرورة تطور المجتمعات الحضرية من خلال البحث عن الثابت، والمتغير، فإننا لا يمكننا أن نقف على حقيقة حالنا في أيّ شأن من شئوننا إلاّ بعد إعادة استقراء الحوادث الماضية، ومحاولة الإلمام بالأدوار التي تقلبت فيها.
تعكس رمزية تسمية المرأة في الثقافة الشعبية الشاوية "ببنت البارود"إعادة إنتاج التصور الثقافي الشاوي، ما يجسد لنا وحدة الحس المشترك لمجتمع الأوراس بهدف الحفاظ على النظام الاجتماعي في المجتمعات الحضرية المعاصرة الذي لا يستلزم تعديل البنية الاجتماعية داخل حقل الصراعات الرمزية بين الثقافات المسيطرة الأصل، والثقافات الغربية الدخيلة التي يسميها محمد عابد الجابري باللامعقول[2]، لأن الثقافة حسب بيار بورديو Pierre Bourdieu
هي رأس مال منتج في حقل خصوصي حسب نظرية الممارسة التي تقوم على ثلاثية"الحقل Field، رأس المال Capital، الهابيتوس Habitus"[3]حيث قال" يمكن للصراعات الرمزية المتعلقة بإدراك العالم الاجتماعي أن تأخذ شكلين مختلفين، من الناحية الموضوعية، أن نسلك من خلال أفعال للتمثل الفردي أو الجماعية التي تهدف إلى ترسيخ بعض الحقائق ، أما على المستوى الفردي حيث يتم ذلك من خلال إستراتيجيات التعريف بالأنا... بهدف إلى إظهار صورتنا، ومكانتنا في الفضاء الاجتماعي"[4]، لذلك نجد أن المرأة الشاوية حاضرة بقوة في الثقافة، والمخيال الجمعي الجزائري
منذ قبل الميلاد إلى يومنا هذا، وقد برهن لنا التاريخ على ذلك من خلال "قصة الكاهنة"، أو دهية DAHIA التي جسدت القيادة، والسلطة في جبال الأوراس، إنها "قاهرة الجيوش"كما يلقبها التاريخ، حيث نجد قصرها، وتمثال لها في بلدية بغاي ولاية خنشلة، وهي خليفة كسيلة الأمازيغي في قيادة أمازيغ شمال إفريقيا لخمسة وثلاثين سنة، حيث قادت معارك ضد الرومان، والعرب، والبيزنطيين لاستعادة أراضي الأمازيغ، فكسبت احترام الجميع، وذكرها المؤرّخون العرب بشكلٍ يُبيّن احترامهم لها.
إنها دهيةDAHIAالتي نجدها تتجسد في (المرأة الشاوية بنت البارود) التي عرّفتها الثقافة، والتاريخ بشجاعتها، وحملها السلاح بالرغم من أنوثتها تحديا لجميع الظروف القاسية، وصعودها إلى الجبل، والعلم بجميع خبايا، وأسرار جبال الأوراس الشامخة، هكذا نجدها اليوم تتجسد إنيتها ضمن ثلاثية(الأم+الجبل+الوطن)، ولا تزال على الرغم من السلطة الذكورية، والعشائرية التي تتصدر النسق الاجتماعي لبنية المجتمع الجزائري عموما، والشاوي خاصة، فهي تحاول دائما فرض وجودها كذات لها إنيتها المستقلة، لكن للأسف التاريخ لا يزال مجحفا في حق هؤلاء النسوة جميعهنّ.
إنها المرأة الشاوية التي لا تزال تؤسّس للهوية الثقافية من خلال إعادة إنتاج "الهابيتوس الشاوي" ضمن صيرورة كرونولوجية عبر ذاكرة جسدها، وروحها، عاداتها، وتقاليدها... ما يجعلها كالمتحف، أو الموسوعة الحية التي تجسد لنا الأنا الشاوية، أو هابيتوس الأوراس، فإّذا تأملت المرأة الشاوية في فضائها الأصلي الريفي تدرك قوة، وصرامة جبال الأوراس الحاضر فيها من خلال اللهجة الشاوية التي تحتل الصدارة كونها أول دلالة تجعلك تدرك أنك حقا انتقلت إلى فضاء جديد من جميع النواحي المادية، والمعنوية، الثقافية، الطبيعة، المناخ...
أما جسدها فهو قاموس من الدلالات، والرموز التي تحاول إخبارنا عن أساطير، وألغاز الثقافة الشعبية لجبال الأوراس من خلال الوشم البارز على عدة مناطق من جسدها كالعنق، البطن، الصدر، اليدين، القدمين، وخاصة الوجه، واليدين، وقد ارتبط الوشم بالجسد كارتباط الروح بالجسد أمام إعادة إنتاج الطبيعة على الجسد، بينما روحها تجعلنا نعيش مقولة ابن خلدون"الإنسان ابن بيئته"فهي قوية، وشامخة شموخ الجبل مستعدة لتحدي جميع الظروف، والتغيرات دون استثناء... كيف لا و هي الملقبة ببنت البارود.
لكن صيرورة التغيرات، والتحولات الحضارية الراهنة التي فرضتها ثورة الحضارة على مجتمع الأوراس شكلت شرخ أو انشطار ثقافي أمام بنية، وطبيعة النسق الثقافي الشاوي بين ماضي "الأنا" وحاضرها في الفضاء الحضري بسبب خلخلة بنية المعاني، والدلالات التي تحملها "الأنا الشاوية"أمام الآخر المحلي أو الغربي، لكن حتمية الانتماء للفضاء الحضري المفتوح جعلها تعيش اليوم اختراق الهابيتوس الشاوي بالغصب أمام سلطة رأس المال الرمزي للمجتمع الأوراسي القبلي، والعشائري الذي يقدم نفسه باعتباره الأصل، بينما الباقي مجرد عوارض، جعل ذلك المرأة الشاوية تعيش الصراع بين الثابت، والمتغير أمام توريثها للهابيتوس الشاوي، لكن ذلك لا يعني بالضرورة تكسير نسق العصبية المتجانس، وبنية المجتمعات الريفية القريبة من الطبيعة، لأنه براديغم لبنية ثابتة تقوض الزمان، والمكان تعكس هوية الإنسان البربري الأمازيغي داخل، وخارج مجموعته النسقية في ذات الوقت، ما يعني أن الانتقال الفيزيقي للمرأة الشاوية توجها نحو الحضرية لا يعني بالضرورة تغيير أو تجاوز الولاء للعصبية العروشية لأن هذا النسق يشكل الجزء الأصل لهوية المجتمع الشاوي.
إذا يجب على الأنا الشاوية بصفة عامة، والمرأة (بنت البارود)خصوصا كونها قاموس الشرق، وبراديغم نقل، وتوريث الهابيتوس الشاوي إعادة إنتاج الأنا الشاوية الشاملة (المتعددة) التي تقبل جميع الاختلافات المحلية، والخارجية في حقل القرية الكونية، ما يمنحها القدرة على العيش بسلام أمام جميع التغيرات، والاختلافات، والهويات...
وهو ما أكده عالم الاجتماع، والأنتروبولوجي تيري باكو Thierry paquotمن خلالي ضرورة إعادة النظر في دراسة (الأنا الكلاسيكية) التي أنتجتها المدينة الصناعية، وإعادة تأويل أفعالها، وسلوكياتها إلى بناء (الأنا المتعددة الشاملة) التي أنتجتها القرية الكونية، حيث جمع في دراسته بين التصور الفلسفي التأويلي من خلال قراءته للفلسفة التأويلية بول ريكور Paul Ricœurلأنه من الضروري بناء الأنا الشاملة التي تملك قدرة المحافظة على هويتها، وثقافتها الثابتة أمام صيرورة التغيرات الحضارية، الثقافية، والاجتماعية، السياسية العالمية...حيث يرى باكو أن الفضاء الحضري يعكس ثقافة، أنطولوجية "الأنا أو الساكن" عبر الهندسة المعمارية، كما تعكس وجوده الفكري النصوص السردية التي يتم تأويلها فلسفيا، لأن العمارة لا تنفصل عن السياق الثقافي، والاجتماعي، والتاريخي في أي مجتمع من المجتمعات، فلا يمكـن للباحث إغفال هذه الدلالة لأن ما يقوم الإنسان بتشييده لا يرتبط بالناحية الجمالية، والفنية فحسب، وإنما يرتبط بالإنسان وبإنيّته.
------------------------
file:///C:/Users/ASUS/AppData/Local/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image006.jpg"width="289"height="254"/>
file:///C:/Users/ASUS/AppData/Local/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image008.jpg" width="260" height="239" />
[1] ، أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الخامس، 1830-1954، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1998، ص 445
[2] ، محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، جماعة الدراسات والتاريخ والمجتمع،بيروت،2011، ص135
[3] ، جاسم محمد أفرا ح، سعد محمد علي حميد، الهابتوس وأشكال رأس المال في فكر بيار بورديو، مجلة الأستاذ، العدد 21 ، المجلد الثاني، 2014، ص 4
[4] , Pierre .BOURDIEU, CHOSES DITES ED MINUIT PARIS 1987,P159
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 14 أوت 2022