الإسلام اليوم: المفهوم غير المفهوم

 

 

المؤلف : الأستاذ بن عمر يزلي 

المؤسسة: قسم علم الاجتماع، جامعة وهران2 

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكترونيعنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث  :الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2

 

 

 

 

مقدمة:

 

يمثل "الإسلام"- كمفهوم ديني من حيث الدلالة اللغوية التي تأخذ اشتقاقاتها من اللغة السريانية وصولا إلى اللغة العربية-مفهوما إشكاليا باطنيا، ذلك أن مفهوم الإسلام، يفهم على وجهين،كوجهي العملة: ظاهري وباطني. الجانب الظاهري، وهو ما فسر لغويا- دينيا على أنه "التسليم بالقدرة الإلهية" وكذا "السلام" أو "الاستسلام" ومنه: الإيمان بالله الواحد الأحد وبالنبي محمد (ص) خاتما لسلسلة الأنبياء والرسل.

الجانب الباطني: وهو ما يهمنا في هذه المقاربة: هو التسليم بوحدانية الخالق والخضوع لإرادته خضوعا مطلقا. أي أن "المفهوم" لا يشترط إلا أن تؤمن بالله الواحد الأوحد، أي أن تؤمن بمبدأ التوحيد، أي، دون الإشراك بالله "شيئا" أو "كائنا". معنى هذا، أن كل من "أسلم نفسه إلى الله" (آمن ووحد)، فهو "مسلم"!، وعليه، فإنه يمكن اعتبار كل معتنقي الديانات السماوية من الموحدين، "مسلمين"! (ما لم يشركوا بالله شيئا!)، من بينهم "النصارى واليهود"..والآيات التي وردت في القرآن الكريم ـ وهي كثيرة ـ تفيد هذا المعنى: "إن الدين عند الله الإسلام"، أو كما جاء على لسان النبي يعقوب (ع) لبنيه(الأسباط الـ12): "فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" (...) وكذا على لسان إبراهيم (ع): "إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين" (...) وقال عز وجل: "بلي من أسلم وجهه لله وهو محسن.." (...)

الإسلام معناه الباطني: الخضوع والتسليم بوحدانية المعبود الخالق دون غيره وإتباع أوامره ونواهيه ظاهرا وخفية..أي في السير وفي العلن، باعتبار "التسليم" إيمانا..والإيمان مقرون بالممارسة: ما "تصدقه الجوارح". هذا ما نجده لدى الكثير من علماء المسلمين، لاسيما فقهاء الباطن وحتى بعض التيارات الإسلامية، الفلسفية كالمعتزلة وإخوان الصفا وغيرهم"(1).

هكذا نجد الشهرستاني يدخل ضمن "المسلمين" من أتباع النبي محمد(ص) في الفرقة الناجية، لاسيما وان يربط "التطور" والنضوج العقلي بالتطور والنضوج التاريخي، عندما يقف عند حدود الحديث النبوي الشريف على معنى "الإسلام ومعنى" "الإيمان"، ليقف نفس موقف المتصوفة من السلم الثلاثي الدرج: "الإسلام، الإيمان، الإحسان".

فالإسلام هو التوحيد والإيمان بالأنبياء والرسل على أنهم "رسل الله" ـ كما تدل عليه أركان الإسلام الخمسة، وهي نفس الأركان الموجودة في الديانات السماوية: شهادة التوحيد بالله وبالنبي المرسل، الصلاة، الزكاة، الصوم والحج-حسب الاستطاعةـ أما الإيمان، فهو الدرجة التطورية الثانية بعد "الإسلام" لأن الإيمان يقتضي أن تجسد الحواس ما يؤمن به القلب. وعليه، يقول الحديث في معرض إجابة النبي محمد على "الأعرابي (جبريل): الإيمان أن تؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره.."أن تؤمن بالله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فهو يراك".

ولهذا تؤكد الآية: "وقالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" (......) وعبارة "لما" تفيد: "ليس بعد أي بعدا تطوريا أو سيرورة زمنية.

1. الإسلام ولائكية "الدين-الدنيا"

 بناء على الرأي "التطوري" الذي حدد المعالم الكبرى لتطور العقل البشري منذ ظهور الإنسان العاقل Homo-sapiens-أو "الآدمي" –نسبة إلى "آدم"-(2)، فإن "الإسلام المحمدي" يكون أسمى دين وأعلاه مرتبة في سلم "الارتقاء" النوعي والعقلي وذلك بحكم التطور التاريخي وتراكم التجارب التي هي تراكم للعقل بحد ذاته.

فالتوحيد مبدئي، والشرك عرضي، أي "ممارساتي" يخضع البشر(3) للممارسة للحياة اليومية " المادية- الدنيوية" كمحك وصقل وتجريب "واختبار" (الابتلاء): "لنبلوكم أيكم أحسن عملا" (...) .المحك الأساسي، هو محك في شكل رحى حجرية ذات الفكين: فك علوي وفك آخر سفلي، بينهما  تخضع البذور للطحن "والرحي". بموجبه تطحن ليصبح "دقيقا" خفيفا، رفيعا أو لتبقى "حبة"، بذرة دون نتيجة.

مفهوم "الارتقاء" و"التسامي" و"الهبوط" والتدني، مفاهيم تكرس  التطورية في كل الأديان السماوية بما فيها، وأكثرها: "الإسلام المحمدي"، الذي يأتي كدين وتعاليم لا كممارسات! (فالفروق شاسعة بين "الديانة الموسوية" التي هي "اليهودية" ( من أتباع يهوذا) وبين "اليهود"، كما الفرق شاسع بين "المسيح" (ع) و"المسيحيين".

كما هو البون شاسع أيضا بين "الإسلام" و"المسلمين"، ففي كل هذه المحطات، وخلال الفترات التي تخللتهما زمنيا ومكانيا، كان الرسل والأنبياء (وهم كثر) : "منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك" (.....)، هم من يتكلفون بوحي من الله عن طريق رسله من الملائكة (جبرائيل عليه السلام) بإعادة الناس إلى طريق الارتقاء بعد أن أغرتهم وأغوتهم "شهوات المادة" التي هي " بين الشيطان" في الابتعاد عن  طريق التسامي نحو المراتب السماوية العليا لصالح "الحياة الدنيا" التي ليست سوى "دار غرور": " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" (....) "الإسلام" إذن معناه "التوحيد" والخضوع الذي يرادف في اللغة الفرنسية لفظة (la soumission)، حتى نرى "إبليس" قد طرد من الجنة، أي من "رحمة الله"-الرحمة، التي تفيد المحبة والحفظ وكل مكونات "الحب" الإلهي- فقط لأنه رفض  السجود لمخلوق جديد اسمه "آدم"- وترابي المنشأ والمنبت-أي رفض الخضوع والتسليم، وعليه فقد كان "إبليس" خارجا عن طاعة الله، غير خاضع (insoumis  ) نزعت عنه "الرحمة" وبسطت عليه "اللعنة" إلى يوم الدين (يوم الحساب النهائي).

هناك إذن، وفي كل الديانات السماوية مستويان لعمل "الدين": المفهوم العقائدي الفكري، والمفهوم "الممارساتي" أي "العملي". هذا الفرق ما بين المستويين الذي تتحكم فيه "الأهواء" والإنية الفردية-الجماعية" (l’égocentrisme)، هو ما يجعلنا  نرى ذلك التصادم والتضاد و"الشيزوفرينيا" الدينية، المتجسدة في التضاد ما بين "الفكر والعمل"، أي ما بين الفكرة الإيمانية العقائدية وما بين ضرورة تطبيق تلك التعاليم في الواقع اليومي، مشكلة سبه "لائكية" غير إرادية أحيانا بين "الدين" و"الدنيا": الدين الذي يدعو إلى "العلو" والدنيا التي تدعو إلى "التدني" (الهبوط)(4) ضمن هذا السياق، تدخل كل الممارسات "الدنيوية" (المشروعة دينيا وغير المشروعة، أي "المحرمة" ) ضمن سياق البحوث السوسيولوجية والأنثربولوجية وكذا باقي العلوم الإنسانية الأخرى التي تجعل من مجال ممارسات البشر وأعمالهم وأساليب عيشهم، فضاء لأبحاثها ،كما هو الشأن مع هذا البحث .

فعلى كل الامتدادات المذهبية الدينية في الإسلام المحمدي، هناك هذه المعادلة الصعبة بين الإسلام والإيمان التي تؤدي إلى "الإحسان".

تبدأ هذه المؤشرات من النص القرآني الصريح، حيث لا نكاد نجد آية واحدة لا تربط الإيمان "بالعمل الصالح": "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" هذه الآية نجدها كثيرا ما تكرر حتى أننا نجد الحديث النبوي يؤكدها في معادلة واحدة محددة وفاصلة : "الدين المعاملة".

ولأن "الدين هو المعاملة"، فإن هذه المعاملة هي التي تحدد طبيعة ودرجة "التدين"، أي "القرب من التعاليم الأصيلة للدين..كيفما كان هذا الدين. وعليه، كان من المهم أن نشير إلى هدا الفارق الجوهري بين ما هو "ديني" سامي متعالي وما بين ما هو "دنيوي" زمني خاضع "للأنا" وللتذوق والفهم "الإني" لهذه التعاليم الدينية العليا.

2.الإسلام والسياسة: المحددات غير المحددة

لم يربط أي دين سماوي "بالسياسة"  كما ربط "الإسلام المحمدي"، وذلك لسبب بسيط- معقد في آن واحد: الإسلام المحمدي قد أنتج نظاما "سياسيا" وأسس "لدولة" إسلامية خلال الخلافة الراشدية ولكن الأكثر إثارة، أنه أسس لمشروع نظام حكم، ولو أن هذا النظام سيعرف تغيرا وتحويلا في مساره بسبب "الممارسة" التي تحدثنا عنها سابقا، أي سبب تلك النزعة "التجريبية" للأداء الاجتماعي تحت مظلة "الدين"، نقصد بذلك، ما سمي بـ "الخلافة الأموية والعباسية" وحتى "الخلافة العثمانية" فيما بعد. سوف نلاحظ هشاشة المعادلة الثنائية "الدين المعاملة" (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) عقب انتهاء "النبوة"، وبصفة أكبر بعد انتهاء عهد الخليفة الثالث "عثمان بن عفان" (ض) مغتالا بعد اغتيال الخليفة الثاني "عمر بن الخطاب" (ض) كما ينتهي الخليفة الرابع "علي بن أبي طالب"هو الآخر مغتالا: ثلاثة خلفاء يغتالون من بين الأربعة (ينتهي العهد الراشدي على أيام "علي بن أبي طالب" لصالح "الإسلام الدنيوي".

الملاحظ هنا أن "الغلبة" الزمنية كانت للأقوى-وهو قانون موضوعي والقوة هنا، هي قوة "العقل" البشري بما يملك من إمكانية الالتفاف والزيغ والمناورة التي تبيحها "السياسة" الشيء الذي لا تؤمنه ولا تؤمن به التعاليم "الدينية" العليا التي تبني معاملاتها وتعاملاتها على أساس "الأخلاق" والقيم النبيلة العليا!! وبذلك تكون كما يقال قد تغلب "السلطان على القرآن".

السياسة إذن في منظور الدين الإسلامي المحمدي، هي فن "الممكن" ولكن ليس بكل شيء ممكن!!

لقد وجدنا أيضا لدى اليهود في سفر يشوع، أي بعد خلافة "يشوع" للنبي موسى (ع) تلك النزعة نحو تأسيس "نظام حكم" أو "دولة" "لشعب الله المختار" على "الأرض الموعودة"، ويمكن ملاحظة نتائج هذه النزعة الإنسانية لدى الاستيلاء على أرض وبلاد ".. الكنعانيين والحثيين والحويين والفرزيين واليبوسيين والجرجاشيين ووالأموريين "لاسيما محاصرة وتدمير "أريحا" وإبادة سكانها بنص توراتي صريح:

 ( الأصحاح 6،7،8..) نفس الشيء نراه مع الامتدادات الاستعمارية الرومانية – البيزنطية (والحرب الصليبية أحسن مثال على ذلك )

3. الخلافة والإمامة: إشكالية القراءة:

لعل جوهر الخلاف "السياسي العقائدي في الإسلام يكمن في هذه المعادلة: الإمامة الخلافة. الأديبات الإسلامية في هذا الشأن تجمع على أن الخلاف السني الشيعي يكمن في الولاء . والولاء هو الجوهر العلاقة بين الحاكم والمحكوم  بل إنه أساس "الحاكمية". هذه الأخيرة التي كانت من جهة ثم الشيعة والخوارج من جهة ثانية وانتهاء بالصراع الخارجي الأموي في نهاية المطاف... وكل هذه الصراعات والنزاعات انبتت أساسا على مفهوم "الحاكمية". فالحاكمية (لله أو للخلفية أو لجمهور الأمة أي الشورى) هي صلب وجوهر الخلاف للقراءة النصية والسيرتية للخلفاء والراشدين ومن بعدهم.

لم تكن الإمامة في الواقع معارضة للخلافة، غير أن الاستعمال "الكلي" والإيديولوجي للمفهومين، حولها عن مسارهما الاشتقاقي. فالإمامة والخلافة يكادان يكونان مترادفين: خلافة رسول الله (من بعده).. والخلافة تفيد الإمامة أيضا .. معنى ذلك أن الخليفة هو الإمام ؟

غير أن الشرط الذي ارتبط لدى الشيعة مثلا هو شرط  "الولاء" آلـ البيت إضافة إلى شرط آخر يكاد يكون وجيها وهو" العصمة " للإمام (الخليفة). هذه المسألة نجدها مطابقة لمفهوم" الإمام العادل" أو "العدل" أو "الخليفة الراشد" (في الحكم الراشد)، وهنا تعود بنا المسألة إلى ما تحدثنا عنه سابقا في أن" الممارسة" للدين هي من "يحدد وجهة التدين". ومعنى هذا أن الحراك الاجتماعي (المتغير) هو الذي يحيي "الثابت" على التحول والتغير أيضا، مما يعني أن الثابت في الدين "نسبي" نوجزه في "الكتاب" و"السنة" (كتاب الله وعترة أهل بيتي.. (الحديث): نسبي لأن في هذا الكتاب" الذي هو القرآن الكريم ثابت كنص مقدس لا يمسه التغيير ولا التحوير اللفظي (إنا نزلنا الذكر وأنا له لحافظون .. (سورة الحجر، الآية9). لكن كقراءة، هناك" المتغير في الثابت"، بمعنى أن القراءة والتأويل لا تفترض ثباتا مطلقا لمعنى النص، مما يوحي أن "الثابت"، ثابت نسبي والمطلق، مطلق نسبي، يعتمد على المعاني الجديدة والدلالات الجديدة التي يفترض التطور الاجتماعي والعلمي(شقيه المادي والروحي) أن يكتشفه ويبرزه.

من هذا المنطلق نقول، أن مسألة "الثابت" والمتحول في الإسلام، قابلة للنقاش، بل هي أصل النقاش حول موضوع الإمامة والخلافة وحول "المقدس المدنس" وحول السلطة والدين وحول القرآن والسلطان كما سمته الأدبيات السياسية الإسلامية.

نحن أمام إشكالية منهج لقراءة النص المقدس الذي هو القرآن الكريم، كما نحن أمام إشكال منهجي تاريخي لقراءة "السيرة النبوية" والأحاديث الشريفة... على الرغم من العبقرية الكبيرة والجهد "العلمي المنهجي" الذي اعتمده الرواة في جمع الأحاديث والتفصيل الدقيق في التمييز بين الأحاديث بين ضعيف وصحيح ومرسل وموقوف وموضوع عمل في غاية الدقة، إلا أن ها لا يبرر وجود فجوات من خلال قراءتها السوسيولوجية للتاريخ الإسلامي، لاسيما  خلال الحقبتين، الأموية العباسية التي ظهر فيها الوضع بشكل ممنهج في الدواوين الأموية وفي الطرف الآخر من المعادلة أيضا- ولو أننا لا نملك اليوم القدرة على الفصل العلمي الدقيق في هذه المسألة من خلال "ميكر- سوسيولوجيا" أو "أنثروبولوجيا التدوين"لأننا لا نملك المفاتح المنهجية لذلك، لكن القراءة السوسيو- أنثروبولوجية للتاريخ الإسلامي خلال هذه الفترة، تفيد بهذا الاحتمال وبوجود مثل هذه الفرضيات.

نحن إذن أمام إشكالية منهجية: اعتماد المصادر التاريخية الإسلامية الكثيرة والكثيرة جدا ، المتعارضة أحيانا، لاسيما المصادر الشيعية، بالمقارنة مع المصادر السنية وهذا في تحديد المفاهيم وتحديد المبنى والمعنى لكل مفهوم بما في ذلك مفهومي الإمامة والخلافة. وحتى وإن افترضنا إمكانية ذلك، يبقى الإشكال مطروحا، لأننا نتعامل مع مفاهيم متحركة غير ثابتة، تعتمد أساسا على القراءة الذاتية المذهبية وأحيانا على الذاتية – الفردية المتمثلة في "المراجع" وأن كانت عادة، إن لم نقل – دوما – ما تشير إلى أن المرجع واحد.

الإسلام إذن هو حراك اجتماعي. هذا الحراك يفترض حراكاً مفاهيمياً يواكبه ويساره، وخلال هذا الحراك تبرز إلى الوجود "الحركات" الجانبية – التي نسميها هامشية أو خارجية أو معارضة بالمفهوم الحديث - والذي تريد أن تمتلك أدوات الانتفاع من هذا الحراك لاعتبارات "وظيفية" أساسا: ظاهرها نصرة المذهب أو الدين ككل، وباطنها هوياتيه مطلبية أي طبقية.

إننا في الواقع أمام تحد صعب لحل معضلة: "الديني – الاجتماعي" في حل مشكلة "الديني – السياسي"، لأن "الاجتماعي"، المرتبط بالممارسة هو من يضع "الديني" ومن يوجهه، ليأتي السياسي ليستغله لخدمة مصلحة أو فئة أو قضية أو أمة أو حالة ما، وهنا يدخل الدين في أتون الهوية الفردية المبينة على الآنية والمركزية التي منها تنطلق كل المصالح وكل القراءات وكل التأويل.

درة عب اليبوم القدرة عبلى بلى وفي الطرف اللآخر من المعدلة خ الإسلامي، لاشيء خلال القضيتين الأموية العباسية ةالتي ظهر فيها

4. الـ "مابعد - الموحدين"، وثنائية "التصوف - السياسية:

عندما نطرح الفترة التي أعقبت انهيار الحضارة الإسلامية في الأندلس، والتشظي السياسي الذي فكك مفاصل الدولة الموحدية، فإننا نطرحها ليس من الباب التاريخي الأمامي، بل من الباب الخلفي السوسيولوجي، أي باعتبار المرحلة الجديدة، مرحلة أعادت إنتاج مجموعة من العلاقات والممارسات الثقافية والسياسية والدينية وفق الحركية الجديدة التي أفرزها انكسار الدولة الموحدية، وبالتالي، انكسار حلم الانتشار الموسع للنموذج الإسلامي المغاربي، ليس في بلاد الشمال الإفريقي، بل حتى في الأندلس وأوروبا.

هذا الانهيار، كان انهيارا ثقافيا، أي سقوطا في "الانهزامية"..هذا، ما دفع بمالك بن نبي لأن يدفع بمفهومه "القابلية للاستعمار" و"الإنسان ما بعد الموحدي"، نحو طرح إشكالي جديد، تمثل في بروز القوى المؤسساتية الشعبية كقوى موازية للقوى التكتلية ممثلة في "العصبيات الدويلاتية"، التي خرجت من رماد الدولة المنهارة: الحفصيون، الزيانيون والمرينيون!.

في الواقع، لقد بدت العلمانية في المجتمع العربي تعمل لصالح ذلك التوافق بين ما هو ديني وما هو دنيوي، في وقت مبكر جدا ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ غير أن الفعل التراكمي لهذا المنحى، سوف يجعل من المجتمع العباسي والأندلسي فيما بعد، نموذجين كبيرين لهذا المسعى، الذي بكل تأكيد، لم يحسم في النهاية لصالح "العلمانية الواقعية"، أي تلك العلمانية التي تقسم الأدوار ولا تلغيها..ترتب المهام ولا تعرض بينها..بل لصالح النكوص باتجاه الذات، عوض الانفتاح باتجاه الآخر. هذا ما شاهدناه مع محنة "ابن رشد". محي الدين بن عربي، الذي مشى خلف نعش ابن رشد ومكتبته، كان يمثل بداية حقبة جديدة.رمزية هذه المحنة وهذا التأبين "الصوفي العرفاني" للفلسفة العقلية..كان بالفعل يمثل بداية العد التنازلي لتلك العلمانية التوافقية بين الدين والسياسة، والعلم والمعرفة.. والعقل والحكمة.. والفلسفة والتصوف.

في الواقع، أن المرحلة الأولى لبروز الملامح الأولى للعلمانية العربية،بداية من الخلافة الأموية،،ستكون شبيهة إلى حد ما بالمرحلة التي تلت انكسار العهد اليوناني وبروز روما ما قبل العهد الإمبراطوري، فالإمبراطوري، التي "أنتجت رجال سياسة، ولكنها لم تنتج مفكرين سياسيين"(5).

غير أن المرحلة ما بعد السقوط، كانت تمثل بداية التشرذم الروماني وبداية ظهور الدويلات اللاتينية..لكن، ليس بنفس المسار الاقتصادي والتاريخي، وإن كانت مرحلة الانتقال من العبودية إلى الإقطاع، تكاد تتوافق في كثير من الأوجه مع المجتمع الشرقي (نمط الاستبداد الشرقي، كما يسميه البعض)، لاسيما هيمنة الكنيسة والإكليرجي المسيحي على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.

مع الدويلات الثلاثة، سوف تشعر هذه العصب القبلية بضرورة الاعتماد على "عسكرة" السياسة، بسبب الحروب والاقتتال على الإرث الموحدي وتقاسم تركة الحدود بين "الإخوة الأعداء"، الشيء الذي "أباح" للفرقاء ـ إتباع الاعتبارات المكيافيلية ـ أن يتحالف بعض منهم مع :أعداء الإسلام الصليبيين، ضد إخوتهم في الدين والانتماء الحضاري!(التحالف الحفصي الإسباني ضد الدولة الزيانية مثلا)، فيما كانت التحالفات الأخرى مع القبائل البدوية العربية (الهلاليين وبنو سليم والأثبج، ورياح..)،تلعب دورا محوريا في حسم بعض الخلافات.

هذا الحراك السياسي الاجتماعي الجديد، من شأنه أن يخلق ديناميكية جديدة لم تكن مألوفة في السابق، وهي ولوج التنظيمات الشعبية القاعدية غمار الممارسة السياسية، لكن من زاوية أخرى:زاوية الزوايا!:الجهاد التصوفي..

 

الشباب : الدين، التصورات والمعتقدات:مقاربة ميدانية

من خلال هذا المبحث، الذي هو جزء من عمل أوسع، نظريا ومقارباتتا حول "الإسلام، التمثلات والمعتقد"، سوف نحاول فهم ظاهرة الفكر الديني" والتدين" و"الذهنية الدينية" لدى الشباب الجزائري وهذا من خلال عمل ميداني ومن خلال العينة التي اشتغلنا عليها والتي تعمدنا أن نحددها فيما يلي، بما يعني أن العينة لا تمثل كل الشباب ولا تمثل غير "النخبة" الشبانية المتعلمة المقبلة على العمل أو الدراسة ما بعد التدرج، أي الإطارات المستقبلية المفترضة:

ـ فئة الشباب التي اشتغلنا عليها، هي "فئة الطلبة، المتخرجين حديثا أو على أهبة التخرج" (سنة رابعة من التعليم العالي ـ ليسانس أو D .E.S أي "دبلوم الدراسات المعمقة، وأيضا طلبة السنة أولى ماجستير أو "طلبة المدرسة الدكتورالية"). وبذلك، فإنا أردنا من البداية أن نحدد عناصر مجموعة البحث التي سينصب عليها بحثنا. وقد استبعدنا في هذا البحث كل المتغيرات الأخرى كالسن (ذلك أن سن العينة محدد سلفا الذي هو سن الشباب ويقع ما بين 23 و33 سنة. كما استبعدنا متغير الجنس رغم أن العينة كانت مختلطة لكن دون تحديد النسبة على اعتبار أن ذلك في رأينا لا يغير من الأمر كثيرا.).

ـ المتغير الذي اشتغلنا عليه، هو "الانحدار الجغرافي" أي منطقة المولد وليس بالضرورة منطقة الإقامة.(الولاية). فالمولود من ولاية كذا، لا يعني أنه ينتمي إليها أصلا، وإن كان هذا هو الأرجح والأغلب، كما أن ولاية المولد، يعني "الترسب الثقافية والفكري" والتوارث العقائدي لدى ألبناء حتى ولو كانوا قد غيروا من مواقع إقامة أصولهم. لهذا، اخترنا أن نقسم منطقة الانحدار إلى قسمين ، بناء على ما تبين: ولايات الشمال (منطقة الشمال) وولايات السهوب والجنوب (منطقة الجنوب). فقد تعمدنا الاشتغال على التوزيع المناطقي وليس على التوزيع الولائي لهذا السبب: التميز الواضح بين الذهنيتين بحكم التمايز الواضح بين الجغرافيتين. وهذا لا يعني أن كل ولايات الشمال مثلا منسجمة، لكن التقارب فيها أكثر من نقاط التباعد.

منهجيا

ـ اعتمدنا على عينة مكونة من 70 طالب (من أصل 100 استمارة موزعة) موزعين بشكل عشوائي بين من طلبة السنة الرابعة علم الاجتماع الثقافي بقسم علم الاجتماع بجامعة وهران وكذا وطلبة السنة الأولى ماجستير في قسم البيولوجيا بنفس الجامعة وكذا طلبة المدرسة الدكتورالية "الدين والمجتمع" التي تجمع ثلاث تخصصات: علم الاجتماع، التاريخ والفلسفة. وزعت 100 استمارة ( في شهر جوان 2010) وتم استعادة   70 منها والتي اعتمدت كعينة نهائية.

تضمنت الاستمارة 19 بيانا وسؤالا مباشرا بعدة خيارات أجوبة الغرض من هذه الأسئلة الاستبيانية، هو معرفة مدى تمثل الشاب، الطالب أو الطالبة، للثقافة الدينية: "العقيدية" منها و"المعتقداتية" والعملية(الإسلام السياسي، البراغماتي، الدعوي، الطرقي..).

 تمثل الطالب المتخرج أو المقبل على التخرج، للظاهرة الدينية في الجانب المعتقدات والعقيدي منه وكذا الجانب العملي، كان علينا أن نصنف الأجوبة بحسب الانتماء! فانتماء العينة، يمكن أن يحدد لنا إلى أي مدى يمكن اعتبار أن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والبيئة الجغرافية، يمكنه أن يغير أو يؤثر في بعض القناعات أو المعتقدات. لهذا، كان علينا أن نجمع أجوبة العينة المبحوثة، بناء على النتائج الأولية من التفريغ في فضائين جغرافيين محددين: المبحوثون المنحدرون أو المولودون في مدن ولايات الشمال، جمعناهم كلهم في "منطقة" واحدة سميناها "منطقة الشمال" وتضم كلا من ولايات: وهران، تلمسان، معسكر، تموشنت، بجاية، غيليزان، بلعباس، الشلف)، وقد كان عدد المبحوثين ضمن هذه المجموعة 50 مبحوثا.(32 مبحوثا (ما يمثل %45.71 من مجمل المبحوثين)، من وهران لوحدها، و21 مبحوثا من باقي الولايات المذكورة، أي ما يمثل %30). أما المجموعة الثانية فقد جمعناها في منطقة واحدة هي "منطقة السهوب والجنوب" وتضم الولايات التالية: بشار، أدرار، تيارت، سعيدة، تسمسيلت، الجلفة. وتضم المجموعة 20 مبحوثاً.

لم يكن الغرض من هذه الاستمارة، تقديم دراسة كمية، بقدر ما كان يعنينا المقاربة الكيفية من خلال الكم! أي أن الأرقام بحد ذاتها لا تعطي دليلا قويا يمكن تعميمه على نطاق أوسع ضمن الفئة الشبانية أو حتى الطلبة، لأن هناك عدة متغيرات أخرى يمكن أن تدخل في الحسبان. غير أن ما كنا نريده من خلال هذه الأسئلة الاستقصائية هو محاولة معرفة الاتجاه العام لدى الشباب وبالضبط فئة الطلبة (باعتبارهم إطارات المستقبل والجيل الجديد) في تمثل هذه الفئة وهذه الشريحة للدين كثقافة وكممارسة وإلى مدى يمكن اعتبار "التمدن" والتحضر، والتغير الاجتماعي والاقتصادي (المدنية والمجتمع العصري) عاملا من عوامل التغير أو "المحافظة" على ثقافة السلف في المجال الديني في جانبه العقدي (الدين كعقيدة) والمعتقداتي (الاعتقاد في بعض الجوانب الغيبية كالسحر، الجن، الخوارق، الكرامات الصوفية..). هكذا، كان توزيعنا على المبحوثين توزيعا جغرافيا مقسما بين "الشمال" والجنوب، منهجا أردنا من خلال البحث عن فرضية أن الجنوب أكثر محافظة وتدينا من الشمال لاعتبارات بيئية اجتماعية وتاريخية، ذلك أنه في تصورنا، أن "المدنية" والتداخل بين الثقافات والانتماءات التي عرفتها المدن الشمالية بفعل الهجرات والتكتل في منطقة ضيقة هروبا من الشساعة الجغرافية "غير المتمدنة" وهذا من خلال الهجرات المتعددة تاريخيا (أثناء العهد الاستعماري وخلال السبعينات ثم خلال التسعينات) أو ما كان يعرف بالنزوح الريفي. التمدن في الشمال، الذي سار على نحو لا هو أوروبي حداثي ولا هو جزائري محلي، جعل من تناطح الثقافي والذهنيات في المدينة الجزائرية، التي هي في الأصل مدن أوربية عمرت بعد الاستقلال من طرف الجزائريين بمختلف انتماءاتهم وأصوله وانحداراتهم الثقافية والعرقية والجغرافية.

 3.1. الاعتقاد في تأثير الظواهر الماورائية

أ.معتقد السحر

السؤال الذي وجهناه للمبحوثين كان كالتالي: هل تؤمن بالسحر؟..نعم/ لا/ غير متأكد. وقد تحصلنا على إجابات متنوعة تصب أغلبها في " الإيمان والتصديق بالسحر"، وقد أهملنا الإجابات الأخرى لقلتها. ذلك أنه من البداية أكدنا أننا لا نريد بحثا كميا بقدر ما نريد أن نقف على مؤشرات كمية في دراسة كيفية.

تحصلنا على النتائج التالية: 57 حالة من مجموع 70 مبحوث، يقرون بالتصديق والإيمان بالسحر، أي ما نسبته 81.42% . غير أنه، وعملا بالمنهجية المقترحة من عندنا والقاضية بتوزيع المبحوثين على منطقتين: الشمال والجنوب، يتضح لنا أن هذه "المسألة" تكاد تشكل الإجماع لدى المبحوثين، سواء أولائك المنتمين إلى ولايات الشمال أو ولايات السهوب والجنوب: 86% ، من المبحوثين بمنطقة الشمال، يؤكدون الإيمان بالسحر، (43 حالة من أصل 50)، فيما نجد 70%  منهم في منطقة الجنوب يؤمنون به (14 حالة من أصل 20). يؤكد هذا أن الإيمان بالسحر يكاد يكون واحدا سواء لدى المنحدرين من الجنوب أو المنتمين إلى ولايات الشمال، مما يفسر أن الظاهرة يكاد الانتماء الجغرافي لا يدخل عاملا مؤثرا فيه. كما تعتبر نسبة الإيمان به جد مرتفعة، بل ومهمة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة العينة: شباب، جامعيون متخرجون أو على مشارف التخرج!، أي بعبارة أخرى: شباب متعلم ومثقف! غير أن هذا فيما نرى، لا يمنع من الإيمان بوجود السحر وهذا بسبب انتشار الظاهرة بين الشباب الجامعي على خلفية التغيرات والأزمات التي يعيشها الطالب والشاب خاصة في مدن الشمال، حيث تبدو الظاهرة متفشية بشكل كبير (ارتفاع النسبة عن نظيرتها في مدن وقرى الجنوب يفسر ذلك). فلقد لفت انتباهنا لهذه الظاهرة، تكرار المناقشات حول الأمر! عدة مذكرات تخرج في قسم علم الاجتماع اشتغل أصحابها على هذا الموضوع (منهم من أشرفنا عليهم شخصيا ومنهم من كنا أعضاء مناقشة) وهذا منذ أزيد من 10 سنوات.

يمكن تفسير هذا التصديق والإيمان بوجود السحر، بطبيعة الذهنية الدينية الإسلامية، التي لا تنكر وجوده كممارسة وكمعتقد أيضا. ذلك أن القرآن الكريم نفسه يقر بوجود هذه الممارسة وهذا في أكثر من أية:" وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " (البقرة/ 102)." فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ "(يونس/ 81). "قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى "(طه/71)." إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى"(طه/73). "لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ" (الأنبياء/3)." قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ" (الشعراء/49). هذا بالإضافة إلى كل الآيات التي ورد فيها اشتقاق من لفظة السحر:ساحر، سحرة، سحار، وهي كثيرة. فالإيمان بالسحر، من "مقتضيات الإيمان" كما يمكن أن يفهمه المسلم. وعليه، فإنه من باب الإيمان والعمل بالدين، التصديق بما جاء به الدين وما جاء في القرآن والحديث (هناك أحاديث عن إصابة النبي (ص) بالسحر. وهو ما قد يفسره المبحوثون على أنه من باب الإيمان بالدين وبتصديق الحديث، التصديق والإيمان بوجود السحر. إذن، البنية الذهنية الدينية التي لا تزال إلى حد متوسط متحكمة في الشباب المتعلم، تجعلنا نقول أن مستوى التصديق به، قد يزداد لدى الفئات العمرية الأخرى.

ب. الاعتقاد بالكائنات الماورائية

                ما انتهينا به قبل قليل، يمكن أن نبدأ به هنا! فالإيمان بالجن، من باب الإيمان بالسحر! هذا إذا اعتبرنا أن كليهما منصوص عليهما في القرآن وفي الحديث وفي الثقافة الإسلامية بشكل عام. فالجن موجود ومذكور في القرآن أكثر من مرة: "والجان خلقناه من قبل من نار السموم" (الأنعام/76"."وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم" (الأنعام/100)." وكذلك جعلنا لكل نبي شياطين الإنس والجن" (الأنعام/ 112)." فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب"(القصص/31)." وخلق الجان من مارج من نار" (الرحمن/15). " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان" (الرحمن/39). وقد ورد ذكر مشتقات الجن في كامل القرآن الكريم 39 مرة.

الإيمان بالجن، يدخل لدى المبحوثين من باب الفكر الديني: فكل ما هو مذكور في القرآن والسنة، هو محل ثقة وإيمان لدى المسلم. غير أن نسبة هذا الإيمان وهذا التصديق، قد يختلف باختلاف "المسلم" نفسه: لاسيما وأن هذه المسائل كثيرا ما صارت في حكم "الفكر الحداثي" من باب "الفكر التقليدي" والإيمان "بالخرافات"! وهذا موقف آخر لا نريد أن نغوص فيه الآن. غير أن هذا الميل موجود لدى بعض الشباب "المتعصرن"، الذي يرغب من باب التماهي مع كل ما هو حداثي و"غرب" في نكر أو إنكار (حتى ولو كان مقتنعا في داخله بوجود الشيء )، من خلال اصطناع ثقافة صورية وفكر عقلاني مصطنع للتماهي مع هذا التوجه.

من ضمن 70 مستجوب، 66 حالة أجابوا بالإيجاب على السؤال: " هل تؤمن بالجن"؟: نعم/ لا/ غير متأكد"، أي ما يعادل 94.2  من ضمن هذه المجموعة المبحوثة، يمكن أن نلاحظ أنه لا يكاد يوجد هناك فرق واضح لدى المجموعتين ما عدا ذلك الفرق الذي يمكن اعتباره "غير منطقي":  فهناك، 48 حالة من 50، أي ما يمثل نسبة 96 %، من المجيبين بنعم ضمن مجموعة الشمال،  فيما بلغ عدد الحالات التي أقرت بتصديقها بهذا الجانب لدى فئة المنطقة الثانية وهي منطقة سكان الهضاب العليا وولايات الجنوب 18 حالة من أصل 20، أي ما يمثل  90% . هذه النسبة غير متوقعة! ذلك أتنا نلمس ذلك الاختلاف الكبير بين موقف المبحوثين في المنطقتين! ويأتي هذا على خلاف نتائج البحث فيما سبق (السحر). حيث أن معظم أفراد العينة الموزعين على ولايات الشمال وولايات السهوب والجنوب، يؤمنون بالجن وبتأثيره بشكل يكاد يكون واحدا. فقوة حضور هذا الجانب من الفكر الثقافي الديني الاجتماعي (عقيدة ومعتقدا)،  لا يفسره الوسط البيئي!.

يقودنا هذا إلى الجزم بأن مرد هذا الفرق بين الموقفين بالنسبة للسحر والجن (لاحظنا سابقا في مسألة الاعتقاد بالسحر، بان الموقفين متقاربين لدى المنتسبين للمنطقتين! وقلنا بأن الأرضية الفكرية الدينية قد تكون وراء هذا التقاسم الفكري الاعتقاد في هذا المسألة، وهذا ما يبدو سار على مسألة الجن. فمسألة الجن، هي مسألة أيضا مثل السحر مرتبطة بالأرضية الفكرية الدينية (حتى أن السحر والجن مرتبطين كموضوعين..حتى في القرآن:" فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون" (الذاريات/39) "كذلك ما أتى الذين من قبلهم إلا قالوا ساحر أو مجنون" (الذاريات/52)، ليس بالضرورة إلى "الأرضية الاجتماعية البيئية والجغرافية"، بل أساسا إلى "الأرضية الدينية"، أي إلى الانتماء الثقافي العام!.

 ج. تأثير الروح في المادة

تعمدنا طرح هذا السؤال الذي يحمل رقم 5، مباشرة بعد السؤالين الأولين، وهذا لمعرفة رد الفعل عن هذا المعتقد: هل هو نابع من الفكر الديني  النقلي أم أساسه عقلي صرف!، أي من تأثير "الثقافة الحداثية العلمانية"! ذلك أن صيغة السؤال كانت واضحة: فلا رائحة للدين فيها ولا للأرضية الدينية! على العكس، هناك نوع من التنفير للدين في السؤال: فهو يتناول "الروح"! وكل من تسأله عن "الروح"، من ذوي الأرضية الدينية، يجيبك إن كان حافظا أو مطلعا قليلا أو كثيرا عن الآية: "قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" (الإسراء /85). وقد اتضح فعلا أن نسبة المؤمنين بهذا الجانب "المظلم" وغير المعروف، و"غير الديني" قليل قياسا مع النسب المتحصل عليها سابقا: فقد أجاب بالإيجاب عن السؤال من مجموع 70 مبحوثا، 36 حالة ( 51.42% ). وهؤلاء المبحوثون سوف لا يختلفون بشكل واضع فيما بينهم وفقا للتقسيم الجغرافي: 27 من 50 يقرون بوجود هذا التأثير وهذا بين أفراد عينة ولايات الشمال، أي ما يعادل 54%  ! فيما تبقى النسبة متقاربة لدى مبحوثي سكان المنطقة الجنوبية. نجد هنا 09 حالات من أصل 20 يقرون بذلك، أي ما نسبته 45% ! وهو رقم  أدنى من نسبة المقرين في المنطقة الأولى كما هو واضح، مما يفسر عدم وجود اختلاف واضح بين الموقفين.(ضمن مدن الشمال، نجد وهران مثلا الذي أجاب 17 من أصل 32 ينتمون لهذه المدينة، أجابوا بالإيجاب مما يعطي نسبة لهذه المدينة تقدر بـ 56.66%)، أي أن المدن الكبرى يمكن أن تكون أكثر إيمانا بهذه المسائل على خلاف توقعاتنا.

تفسير ذلك: أن المبحوثين جميعهم،، لثقافتهم الفكرية الدينية المتأتية من الإيمان بالقضاء والقدر وبالفكر الصوفي والثقافة الشعبية التي تعطي للبعد الغيبي بعدا أكبر من البعد العقلي المادي الصرف، يرون أن تأثير الظواهر الغيبية في العالم المادي موجودة وفاعلة! (لقد استبعدنا بعض الحالات التي يجيب فيها أصحابها بعبارة "غير متأكد" وأيضا بعض الإجابات القليلة جدا بالنفي! وهي إجابات لا تؤثر في التقييم العام لرأي المبحوثين!.). سنجد ذلك واضح في الإجابات على السؤال السادس.

د. كرامات الأولياء

بناء على السؤال الذي صيغ بهذه الطريقة:" هل تعتقد بكرامة الأولياء الصالحين"؟: نعم/ لا/ غير متأكد."، كانت الإجابات على النحو التالي: 35 حالة من أصل 70، أجابوا بالإيجاب. وهو ما يمثل نسبة 50% . وهي نسبة متقاربة مع النسبة السابقة (المعتقدون في تأثير الروح على المادة! فالكرامة أصلا تأخذ هذا المعنى: تأثير الروحي المتسامي على المادي الدنيوي!). كما أن نسبة المعتقدين لدى منطقة الشمال، تنخفض بشكل ملحوظ عن مثيلتها لدى المجيبين على السؤال السابق!: 22 من 50 يقرون بذلك (44% )، مقابل فرق واضح لدى مبحوثي المنطقة الجنوبية: 13 حالة من 20! أي ما يعادل نسبة 65% !

نلاحظ هنا أن قلة الاعتقاد بكرامة الأولياء لدى المدن الشمالية تفسره طبيعة "الأرضية الاجتماعية"، وأيضا "الأرضية الدينية"! فالحركات الطرقية لها حضور وتواجد أكبر في الجنوب والهضاب، فيما يقل نفوذها وحضورها العملي والتأثيري في مدن الشمال! وهذه فرضية يبدو أنها تحققت! ذلك أننا افترضنا أن تأثير الحركات الطرقية يكون في الجنوب أكثر منه في الشمال بفعل التمدن والتأثير الغربي الشمالي: العصرنة (ولا نقول "الحداثة"، بل نتائج البعد الحداثي الغربي، المنجر عن الاقتصاد المبني على الرأسمالية والعقلانية الأوربية المنحدرة من نتائج الثورة الصناعية والعلمية التي واكبتها: الاختراعات، الاكتشافات، ثم الرأسملة والفردنة والتفتيت الذي حدث في البنى التقليدية: الأسرة، القبيلة، العشيرة، القرابة..إلخ).

الاعتقاد بكرامة الأولياء إذن من باب الاعتقاد بظواهر أخرى سبق ذكرها خاصة "تأثير الروح على المادة, والجن"! حيث تبدو إيجابيات المبحوثين في كلي المنطقتين منسجمة ! فالجنوبيون أكثر إيمانا وتصديقا بهذه المسائل، قياسا بسكان المدن الشمالية!.

وهذا ما سوف يبرز أكثر، لدى الطرفين من خلال الإجابة على السؤال الموالي:

3.2. التأثير الطرقي

أ. دور الزوايا

"هل تعتقد أن للزوايا الطرقية دور ما؟": نعم/ لا/ غير متأكد": هكذا، وجه السؤال التاسع للمبحوثين من كلا الانتماءين وكانت النتائج على النحو التالي: 46 حالة، من أصل 70 أجابوا بالإيجاب، أي ما يمثل 65.71%  . ضمن العدد الإجمالي للمبحوثين، نجد 32 حالة من أصل 50 (64% )، المنتمين للمنطقة الشمالية قد أجابوا بالإيجاب!، بينما أجاب "بنعم" 14 من 20 من المنتسبين لمنطقة الجنوبية، أي ما يعادل 70%  من مبحوثي ولايات الجنوب والسهوب. يبدو هذا منطقيا قياسا بما اشرنا إليه اسبقا وفي انسجام مع ما مر بنا من إجابات، تعبر عن واقع ثقافي وبيئة دينية واجتماعية محددة مطبوعة بالثقافة الدينية الطرقية بشكل عام. غير أن هذا لا يعني كما سيتضح لاحقا أن "الشباب" (الطلبة) منخرطون تماما في هذه البيئة! بل كما سوف نلاحظ، يبدون موقفا شبه نقدي ومتحفظ إزاء هذا الاحتواء للواقع الاجتماعي والثقافي من طرف البيئة الطرقية.

ب. حجم التأثير الطرقي

إذا كان 70%  من مبحوثي منطقة الجنوب قد أقروا بوجود دور للحركات الطرقية، فيما أقر بها 30%  من نظرائهم بمنطقة الشمال، فإن التوقعات كانت بالنسبة لنا غير "متوقعة" فيما يتعلق بالإجابة على السؤال رقم 13: "هل تعتقد أن الزاوية والطريقة لا تزال تحتفظ بسلطتها على الناس؟": على القليل منهم/ على الأتباع فقط/ على جميع الناس."، خاصة من طرف مبحوثي المنطقة الجنوبية: ذلك أن 16 حالة من 20 (80% )، أجابوا بأن الزوايا لا تمارس سلطتها سوى على القيل من الناس وعلى الأتباع"! فيما رأى 17 من 50 المنتمين إلى منطقة الشمال (34% )  نفس الرأي.

رأي المبحوثين من المنتسبين للجنوب، له دلالة خاصة: فهو شبه إعلان أو تصريح بأن الزوايا والحركات الطرقية على انتشارها بالجنوب، فإنها لا تمثل إلا القليل ولا تفرض سلطتها الروحية والاجتماعية سوى على "الأتباع وقليل من الناس"! (ستعرف فيما بعد من هم هذه الفئة "القليلة"). قد يكون هذا "موقف" من سلطة هذه الزوايا تأتى من باب "صراع الأجيال"! ونوعا من "التحدي" والاختلاف ورفض جزئي لهذه الشرعية "المطلقة" عليهم، باعتبارهم "شباب" متعلمين، علميين..!!.هذا ما نلمسه أكثر في الإجابات على السؤال الموالي.

ج. الفئة الأكثر تأثراً

      "إذا كان هناك تأثير للوالي على الناس، فمن هم هؤلاء الناس: عجائز وشيوخ فقط؟/ أميين وبسطاء المستوى؟/ شباب مثقف؟/ جميع الناس؟". هكذا، كان السؤال يقول! والأجوبة كانت في غالبيتها النسبية والمطلقة تؤكد أن تأثر شيخ الزاوية، وبالتالي تأثير الزاوية والطريقة  بشكل أعم يقع فقط على فئة العجائز والشيوخ وذوي المستوى الثقافي البسيط" (تجنبا للتحدث عن "الأميين"): 57 حالة من أصل 70 يقرون بهذا! أي ما يمثل نسبة 81.42% . سكان الجنوب والذين يمثلون 60%  من المقرين بذلك (12 حالة من 20)، يشكلون تأكيدا للموقف الأول: فهم يوضحون أن تأثير الزوايا في رأيهم لا يقع إلا على " القليل، والأتباع، من العجزة والشيوخ وذوي المستوى الثقافي والتعليمي البسيط"! نجد هذه النسبة أق لدى سكان الشمال: 45 من 50  يقرون بذلك، أي ما يمثل 90% ! وهي نسبة تبدو مرتفعة إذا ما قيست بنسبة الجنوبيين! : يمكن تفسير ذلك "بسوء" تقدير تأثير هذه الزوايا بالنسبة للشماليين، بحكم عدم لمس هذا التأثير في بيئتهم الاجتماعية الجغرافية. في حين يقدر الجنوبيون تأثيرها بشيء من الموضوعية: 60% ، نسبة نفوق النصف ولكنها لا تصل إلى مستوى تقدير عينة الشمال. باقي الإجابات تتراوح ما بين: جميع الناس والشاب وبدون إجابات! مما جعلنا نفسر ذلك بعدم الإطلاع على واقع أمر تأثير هذه الزوايا، باعتبار أنه لا يلمس هذا الوجوه من حوله وبالتالي لا يعرف مدى تأثيرها من عدمها فضلا على من يقع التأثير الأقوى!. يبدو هناك "سوء تقدير" للمبحوثين الشماليين لهذا التأثير: فهم لا يرون بشكل واضح هذا التأثير ولا يلمسونه، لهذا تبدو إجاباتهم غير محددة بدقة: كأن لا يجيبوا على السؤال أساسا، وهم كثر أو يجيبون بغير تأكد! لا حظنا ذلك كثرة الشطب وإعادة التصحيح بالمشطوب وتغييره أو الإجابة على شطرين أو ثلاثة دفعة واحدة! في حين كانت إجابة المبحوثين من الجنوب والسهوب أكثر دقة وأكثر "صرامة"، أي بدون تردد! مما يفسر إطلاعهم على هذا الواقع واتخاذهم موقف واضع، وعن دراية فيما يبدو!.

د. الطرقية والاستعمار

 كنا قد طرحنا في الإشكالية كيف أن الطلبة عادة ما كانوا يقفون موقفا أق ما يمكن أن يقال عنه "استفهاميا" عندما كنا نطرح عليهم فكرة "مقاومة الزوايا للاستعمار"، ما جعلنا نفترض أن يكون للطالب موقفا "سلبيا" من هذه الزوايا، على خلفية أن البعض منهم يؤمن بأنها كانت "عونا" للاستعمار أو في أحسن الأحول "متعاونة أو ساكتة".

من خلال تفريغ الاستمارات، لا حظنا ما يلي: أكثر من نصف المبحوثين، يقرون بعكس ذلك، ويرون أن الزوايا لعب "دورا إيجابيا" أثناء الحقبة الاستعمارية!. فقد أجاب بالإيجابية، 60% ! (42 حالة من أصل 70). غير أن الملفت هنا، هو أن "الجنوبيين" أكثر تحفظا إزاء صك الغفران هذا! فهم يرون أن الزوايا لعبت دورا "إيجابيا" أثناء الاستعمار، لكن نسبة من يرون ذلك، أقل من نسبة نظرائهم في الشمال!: 55%  فقط من الجنوبيين يرون أن الزوايا لعبت دورا إيجابيا أثناء الحقبة الكولونيالية (11 حالة من أصل 20)، بينما يرى ذلك 62%  من الشماليين ! الفرق فيما يبدو واضحا! ولعل هذا الموقف يرتبط بعلاقة الموقف بالبيئة والمعايشة! فالجنوبيون أكثر اتصالا بالزوايا وأكثر معرفة بأمورها، ولعل هذا ما جعل النسبة نقل عند الجنوبيين قياسا مع نسبة آراء الشماليين الإيجابية في هذه المسألة بالذات!.

تأتي نسبة المجيبين بالموقف "المتذبذب" لهذه الزويا إزاء الاستعمار، في المرتبة الثانية من حيث عدد الإجابات: 31.43%  من المبحوثين في المنطقتين يرون ذلك (22 حالة من بين 70). وتبدو النسب متطابقة في هذا الموقف لدى المنتمين لكلي المنطقتين: 32%  من المنطقة الشمالية يرون ذلك قد حصل (16 مبحوثا من أصل 50)، فيما يرى 30%  من المنتسبين لمنطقة الجنوب نفس الرأي. (06 حالات من 20). يؤكد هذا أن الموقف يكاد يكون واحدا لدى المجموعتين عندما يتعلق الأمر بمسألة "الموقف المتذبذب" لهذه الزوايا إزاء الاستعمار. رغم هذا، يبدو الموقف الإيجابي متغلبا بمعدل الضعف تقريبا.

3.3. الشباب و الدين: الاعتقاد في التأثير

تجدر الفكر الديني في البنية الثقافية الجزائرية، يدفعنا إلى محاولة معرفة موقف ورأي المبحوثين من كلا المجموعتين من"الدين" كمنهج حياتي اجتماعي وسياسي، أي كمشروع مجتمع.

السؤال الذي كان موجها (رقم 18)، كان يبحث عما إذا كان المبحوث يرى "أن الدين يمكن أن يحل المشاكل الاجتماعية والسياسية" والإجابة كانت مقترحة عليها في ثلاث صيغ: نعم/ لا/ لا أعرف. تعمدنا أن نضع هذا السؤال ما قبل السؤال الأخير الذين سيكون كثر دقة وأكثر حصرية، علما بأن هناك سؤال تعمدنا أن نطرحه قبل هذا يفصله سؤال آخر وهذا كإستراتيجية منا لاستدراج المبحوث لكي يجيب بشكل واضح. كما أن وضع أسئلة متقاربة أحيانا ومتباعدة في الترتيب، من شأنها أن تعزز عندنا قناعة المبحوث ومصداقية أجابته وانسجامها ومحاولة افتكاك إجابة أقل ما يقال عنها أنها "صحيحة".

92.85%  أجابوا بالإيجاب (65 حالة من أصل 70 مستجوب). بينما لم يجب بالسلب سوى 02.85%  (2 حالات من أصل 70،  وتنتميان إلى منطقة الشمال) نصيب المنتمين إلى منطقة الجنوب كانت كما توقعنا أكبر بكثير من نسبة نظرائهم في المعادلة (الشمال): فقد أجاب بـ "نعم"، 17 من أصل 20، أي ما يمثل 85% !، فيما أجاب بنفس الصيغة 48 من 50، أي ما يمثل 96% ! وهي كما نرى نسب عالية، ومتقاربة مع إجابة عينة الجنوب، يبدو من خلالها أن سكان الشمال أكثر يقينا من أن الدين يمكن أن يلعب دورا أساسيا في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. هذا "الدين"، سوف نحاول أن نعرف نوعيته وأصحابه كما يرونهم! فالدين مرتبط بالمتدين! أي أن الدين مرتبط بمن يطبقه وكيفية تطبيقه! فالإسلام ليس "المسلمين"، كما أن المسلمين ليسوا "الإسلام" على رأي الشيخ محمد عبده.

أ. الدين والسياسة لدى الشباب

عن سؤال عن"أي إسلام تراه اليوم متفهما للظروف ومواكبا للعصر": الإسلام الرسمي/الإسلام السياسي ـ الحزبي/ الاتجاه السلفي/ الاتجاه الدعوي/ الميولات الشيعية/ التصوف"؟ أجاب فقط 15.71%  من المستجوبين (11 من أصل 70). وهو رقم ضعيف فيما نلاحظ. المنتمون إلى الولايات السهبية والجنوبية كانوا أقل من نظرائهم في ولايات الشمال في هذا الرأي: ففقط 05% ، يرون أن الإسلام السياسي ـ الحزبي يمكن أن يكون اليوم التيار الديني الأكثر تفهما للظروف المواكبة للعصر (أي "براغماتيا")، ذلك أننا لم نسجل سوى حالة واحدة من 20 مستجوب ضمن كتلة الجنوب، فما ترتفع النسبة أكثر لدى كتلة الشمال في هذا الشأن ويقر 10 من أصل 50 بهذا الرأي، أي ما نسبته 20%  . معنى هذا، أن الإسلام السياسي، على ضعف تقديره على أساس البراغماتية، فإن المنتسبين للمنطقة الشمالية أكثر أيمانا بهذا الجانب من نظرائهم في المنطقة الثانية. قد يفسر ذلك بسبب طبيعة الثقافة والانتماء الطرقي والولاء لبعض أحزب الحكم ، غير أن هذا ليس واضحا تماما، إنما يمكن استشفافه من الإجابات المقبلة، لاسيما موقفهم من "الإسلام الرسمي"، أي الإسلام كما تطبقه الدولة الجزائرية من خلال مؤسساتها الرسمية ووزارتها الوصية : وزارة الشؤون الدينية والأوقاف".

عن سؤال آخر مختلف قليلا ومكمل للسؤال السابق: "أي تيار ديني ودنيوي، تراه صالحا ليلعب دور الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي؟: الإسلام السياسي/ السلفي/ الدعوي/ التيار الشيعي/ الصوفي الطرقي/ التيار العلماني/ التيار الاشتراكي الشيوعي/ أحزاب التحالف الرئاسي.؟"..اختار فقط 21.42%  من مجموع المبحوثين أن يروا أن الإسلام السياسي هو الأنسب (15 من 70)، منهم 20%  من منطقة الشمال (10 من 50)، فيما ارتفعت النسبة قليلا لدى الجنوبيين لتصل إلى 25%  (5 من 20). ربع المستجوبين فقط يرون ذلك، وهي نسبة ضعيفة قياسا بما كنا نتوقعه بأن مد الإسلام السياسي قد طار حتى الشباب المتعلم والمثقف لاسيما الطلبة.

ب. الدين والدولة

كما أشرنا إلى ذلك سابقا، نلاحظ أن أكثر من نصف المستجوبين في كلي المنطقتين، يرون بأن "الإسلام" العملي والمتفهم للظروف والمواكب للعصر هو ذلك الإسلام الذي تنتهجه الدولة الجزائرية!. وهو جواب غير متوقع من طرفنا! يمكن فهم ذلك لما لخصوصية العينة من مواقف: فالعينة مكونة أصلا من طلبة متخرجين على وشك التخرج، والبعض منهم موظف (لاسيما في التعليم الثانوي أو المتوسط)، ومقبلون على الحيازة على الماجستير أو الماستر والدكتوراه فيما بعد! ورأي هؤلاء قد يختلف عن رأي عامة الناس أو الشرائح الأخرى المختلفة: لهذا، تعمدنا من البداية أن نؤكد أن العينة غير ممثلة لكل الشباب: فقط الشباب من الطلبة المزاولين للدراسات ما بعد التدرج والمقبلين على الخرج من الجامعة من مرحلة التدرج!.

الأرقام التي تحصلنا عليها تؤكد أن 64.28%  من مجموع المبحوثين تقر بأن "الإسلام الرسمي" هو المؤهل لتفهم الظروف ومواكبة العصر (45 حالة من أصل 70). نصيب منطقة الشمال من هذه النسبة كان 56%  (28 من 50)، ويكاد ينطبق هذا مع رأي الجنوبيين: 55% ، (11 من 20).

عن السؤال الأخير (رقم 19، على الاستمارة)، والذي سبق وأن اشرنا إلى نصه في فقرة "الدين والسياسة"، أجاب 18.57%  من المستجوبين على أن "أحزاب التحالف الرئاسي" هي الأحزاب التي يمكن أن تلعب دور الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي في الجزائر (13 من أصل 70 )، منهم 20%  من منطقة الشمال (10 من 50)، و15%  من الجنوب (03 من 20). مع ذلك، نلاحظ أن النسبة تفوق قليلا نسبة من اختاروا "الإسلام السياسي" على أنه قد يكون صالحا للإصلاح.

ج. الدعوة والسلف

                ثالث نسبة من حيث الأهمية، سجلناها مع الإجابات على أن التيار الدعوي والسلفي (السلفي ، يفهم منه أيضا "الدعوي" وليس الجهادي، أي ما يسمى "بالسلفية العلمية"، يمكن أن يكونا متفهمين للظروف والواقعية! غير أن النسبة تقل في هذا الباب: فقط 20%   اختاروا هذين التيارين (14 من 70)، منهم 16%  من منطقة الشمال (8 من 50)، وضعف هذه النسبة لدى المنتسبين للولايات الجنوبية: 30%  (06 من 20). هذه الأرقام، لاسيما إجابات الجنوب، يمكن تفسيرها على أساس "التدين" الطبيعي، العفوي الميال إلى الواقعية في كل شيء وأيضاً إلى الاعتدال الذي يطبعه الفكر الديني التقليدي والوصفي بالأساس.

عن السؤال 19، أجاب فق 17.14%  بأن التيار السلفي والدعوي هما التياران الذي يمكن أن يعول عليهما في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي! (12 من 70). أجاب بنفس الإجابة منهم 14%  من مبحوثي منطقة الشمال، (07 من 50)، فيما أجاب بنفس الصيغة 25%  (05 من 20). يتضح من ذلك أن المنتسبين للجنوب، عادة ما يرون أن الإسلام الوسطي والمعتدل هو الحل. وإذا أضفنا إلى هذا التصنيف خيار "الزوايا" والحركة الطرقية كمؤسسات دينية بإمكانها أن تصلح المجتمع والاقتصاد، سنجد فقط 10%  يرون ذلك ممكنا (07 من 70)، معظمهم من منطقة الشمال!! (06 حالات من 50)، وهو ما يعادل 12%!، فيما لا نجد سوى حالة واحدة من الجنوب تؤمن بذلك (05%)، مما يعني أن سكان الجنوب الذي هو على دراية نسبية بما مدى إمكانية الزوايا والفكر الطرقي من حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، يرون ذلك الاحتمال ضعيفا لمعرفتهم المسبقة بهذه الزوايا وطبيعة ظروفها وتنظيمها وجاهزيتها في الوقت الراهن.

د. فصل الدين عن الدولة

سجلنا 15.71%  من الإجابات التي ترى بأن العلمانية والأحزاب اللآئكية هي التي يمكن أن تصلح أحوال اقتصاد والمجتمع (11 من 70)، منهم 20%  من منطقة الشمال (10 من 50) وفقط 05%  من الجنوب (01 من 20). وهذا ما يؤكد ويعزز اعتقادنا السابق بأن المواطن الجزائري والشاب والطالب في الجنوب أساسا وفي الشمال، يتملك أرضية دينية بالأساس تجعله متشبثا أكثر بالدين وبالثقافة والذهنية الدينية (ملاحة: لم نجد إجابة واحد اختارت "النهج الاشتراكي والشيوعي..مثلا!).غير أن الذي فضلوا عدم الإجابة على أي خيار من الخيارات المعروضة (لسبب أو لأخر: كأن يكون يرى أنه لا أحد في هذه التيارات يمكن أن يكون مؤهلا للإصلاح، وهي نظرة تشاؤمية، أو أن يكون غير قادر على الحسم!)، سيمثلون نسبة لا بأس بها، بل وتتطابق تماما مع عدد من اختاروا التيارين "السلفي والدعوي" فيما مر علينا: 17.14%  اختاروا عدم الإجابة على أي خيار (12 من 70)، منهم 22%  من منطقة الشمال (11 من 50)، وفقط 05%  من الجنوب (01 من 20)، مما يعني أن المترددين أكثر في الإجابة هم من منطقة الشمال ! أم سكان الجنوب فقد حسموا أمرهم في الخيارات السابقة. يؤكد هذا بعض القناعات الراسخة لدى البعض لاسيما في الجنوب والقناعات "العملية" لدى الشماليين!.

3.4. الانتماء: الخيار الأصعب

ما خلصنا إليه في هذا البحث، هو أن الشاب والطالب، متردد في الانتماء إلى أي تشكيلة سياسية أو الانتماء إلى طريقة معينة. بمعنى أنه يرى في الانتماء تقييدا لحريته الفكرية، غير أن من اختاروا الانتماء، سواء إلى طريقة أو إلى تيار أو حزب سياسي، إنما هم قلة وقد يكونوا قد أقبلوا على هذا الاختيار لإستراتيجية اجتماعية أو نفسية أو حتى بشكل عفوي بدون تخطيط حتى.

فبالنسبة للطرقية، يبدو أن الانتماء لهذه لحركة وللزوايا بالنسبة للشباب أمرا غير منتشر، لاسيما في الشمال. مع ذلك، تم تسجيل مجموعة حالات.08.57%  فقط ينتسبون أو انتسبوا يوما لطريقة من الطرق.(06 حالات من 70)، نجد معظمها في منطقة الجنوب: 15%  من المبحوثين بمنطقة الجنوب انتسبوا يوما أو هم منتسبون اليوم لإحدى الطرق.(03 من 20)، فيما تتراجع هذه النسبة إلى أكثر من النصف لدى عينة الشمال، حيث نجد 06%  منهم انتسبوا أو هم منتسبون (03 من 50).مع ذلك، يمكن أن نقول أن الطرق والزوايا لا تزال تستقطب عددا من السكان على مختلف انتماءاتهم الجغرافية، هذا في حد ذاته مؤشر على أن الشباب والطلبة هنا، المثقفون المتعلمون، لا تزال نسبة منهم تدور في فلك الوسط البيئي الأسري والاجتماعي والديني، وأن هذه المؤسسات لم تفقد بريقها بعد.

أما ما يتعلق بالانتساب إلى حزب أو تيار سياسي تنظيمي، فيبدو نسبته أكثر ارتفاعا من نسبة الانتساب إلى الزاوية! ربما "البراغماتية" العمل السياسي والنفعية التي قد يحصل عليها المنخرط!: 15.71%  من العينة صرحوا بأنهم ينتمون أو انتموا إلى حزب سياسي. (11 من70)، معظمهم من سكان الجنوب!: 35% ! (07 من 20)، فيما لا نجد سوى 08% من المنخرطين في منطقة الشمال (04 من 50). لعل هذا ما يجعلنا نؤكد أن الانتماء على قلته لدى المجموعتين، إنما مجموعة الجنوب يملكون القابلية والحافزية للانخراط الحزبي، ربما طمعا في تحقيق إنجازات ما شخصية كانت أم اجتماعية/ وقد يكون ذلك من باب العملية والنشاط وملء الوقت أحيانا أو بدافع "نضالي" دينيا كان أم دنيويا! مع ذلك يبقى الانخراط والانتماء قليلا لدى الشباب والطلبة هنا أساساً.

 

 

الهوامش:

1- يمكن الاطلاع على ما قاله ابن حزم من "الفصل في الملل والأهواء والنحل".

2- آدم: مشتق لغويا من الأدم..أي الجلد الذي لا يكسوه شعر.يمكن العودة إلى: محمد شحرور: الكتاب والقرآن. دار الأهالي،ط7. دمشق1997.

3- البشر، وعلى عكس "الآدمي"، هو ذلك المخلوق الذي يكسو جلده الشعر، أي تلك الكائنات غير المتطورة عقليا التي تسمى سوسيولوجيا "بالقطيع الحيواني". ينظر نفس المرجع السابق.

4- نشير هنا إلى أن "الهبوط" هو غير "النزول" أو "الإنزال" أو "التنزيل"، فهي مصطلحات متفاوتة في الدلالة، وفي المعنى، ذلك أن الهبوط يفيد التدني في المستوى الخلقي والأخلاقي أي "التقهقر المضاد للسمو أو التسامي أو "الارتقاء".

5- شلبي إبراهيم أحمد:تطور الفكر السياسي. الدار الجامعة . بيروت.1985. ص :117.

 

*- بن عمر يزلي

أستاذ التعليم العالي،قسم علم الاجتماع جامعة وهران2  

 

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة