
أنطولوجيا وسائل الإعلام ...محاولات في مسألة "النهايات"
المؤلف : الأستاذ سعيدات الحاج عيسى
المؤسسة: قسم الاعلام والاتصال، جامعة الأغواط
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث: مخبر سوسيولوجيا الاتصال الثقافي :القيم ،التمثلات ،الممارسات
تمهيد:
لا يتعلق الأمر هنا بنبوءات "نوستراداموس" أو العرافة "ديلفي" *.. بقدر ما يطرح تصورات معرفية سرعان ما أثارت بعيد التحولات الجيو- سياسية العميقة لعالم ما بعد 1989،جملة من النقاشات الكبرى، فكانت أفكار و طروحات كل من ف.فوكوياما و ص.هانتنغتون مثلا، هي بالأساس "تنبؤات" ،تستلهم عمقها المعرفي من كم هائل من المعطيات والتحاليل و المقارنات الجارية في ميدان البحوث التي تطرحها الحقول العلمية للأكاديميا الأورو-أمريكية بالخصوص.
وكمفارقة موضوعية، جاءت "النبوءات العلمية" القائلة بنهاية "عصور" وسائل الإعلام التقليدية (بل الوسائل ذاتها) من أوروبا وبإصرار فرنسي واضح، فانطلقت المحاولات النقدية للاتجاهات النيوماركسية النشطة بالخصوص ²،عبر تياراتها المتجددة على أساس منابر النقد الثقافي، والإخفاقات الملاحظة لأوعية المقاومة المتعلقة بالاستثناء الثقافي، على وقع الديناميكية الحثيثة للواقعية الليبرالية واقتصاد السوق الحرة.
ركزت تيارات الدراسات الثقافية والنقدية الاجتماعية (غير النسقية) في كتاباتها الأخيرة، على وصم الانتشار الحاد لسلطة "التقانة الوسائلية" لأجهزة الميلتيميديا على نسق الحياة اليومية عبر عموم المجتمعات، بأنه "باتولوجيا" إنسانية مهددة لمكاسب "العلموية" الإنسانية عبر تاريخها الطويل (من وجهة المركزية الغربية على الأقل)، وألقت التصورات الفلسفية (ما بعد النسقية) بالضوء على مجال فكري ما فتئ يلقى الرواج، متمثلا في المستقبليات وعلم "ابتسار" العلوم الاجتماعية.
من جهة مغايرة أدت عوامل التطور الكبير لحوامل الصناعات الإعلامية إلى تداخلات حادة لوظائف بين النظم "المعلو-إعلامية" ، فضلا عن التطبيقات المختلفة ذات العلاقة بمجالات التحرير و التوظيب والإخراج والفنون البصرية العديدة،التي من رحمها تبلورت صنوف "التهديدات" العارمة للبقاء الانطولوجيا لوسائل الاتصال الجماهيري ضمن حيزها الاجتماعي .
لقد هددت هذه التطورات قواعد "الحميمية" بين الفرد والوسيلة، وقوضت فرص "النرجسية" في العلاقة وعصفت بالتلقي تحت شعار التفاعل، ثم أجهزت على الفاعل الإعلامي أمام فوضوية البث والتحرير الذي انسحب أمام التدوين.
أمام ما أحدثته "الأداتية الجديدة" على مشهد الإعلام ووسائله تولدت جملة الإشكاليات الكبرى، مخاطبة الفضاءات الفكرية والأكاديمية، على نسق ما سنتناوله من خلال ثلاث مؤلفات* ،انطلق أصحابها لمحاولة التأسيس لزوايا تحليل تعيد استقراء السيرورة العامة لسياق زمني شامل أحدثه التيار "العولمي" وتحالفاته.
فهل نحن بصدد "طفرة" زمنية ابستمولوجية فارقة نقلت النقاش والمعالجة والتحليل، من مخافة إزالة وسائل الإعلام والمعلومات للمقومات الانطولوجية للفرد في مجتمعه (اندماجه، تفاعلاته، إبداعاته وحتى معاشه)، إلى تفتت وجود هذه الوسائل بالأساس (في البنى و الوظائف) حتى وفق منطق "التجاوز"، الذي حاولت الفلسفة الأوروبية التأسيس له يوما ما ؟.
توطئة منهجية :
لقد انفصمت عرى التحليل "النسقي" ( التقليدي/الشامل/الوظيفي) للإعلام ووسائله في ثنايا التمثلات السوسيو-ثقافية مع تقاطعاتها المختلفة، لتتيح خصوبة بحثية دفعت الى تشكل "مشهد" علمي أضحى التشكيك أبرز سماته ولوازمه ، انبرت الكتابات التحليلية فيها لمعالجة ثنائية (وسائل الإعلام – الجمهور ) في شكل "تدافع " هدفه الواضح نقض الملامح التقليدية ،والتأسيس لصورة جديدة مختلفة ،لا تنشد العدمية بالضرورة بقدر ما تؤسس آلية فلسفية بحته لفحص تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية ،بقصد إخراجها من أزمتها الطويلة (منذ ماي 1968 ربما) التي كان من أبرز هواجس شعاراتها "ما لجدوى "؟A quoi sert ?.
انعكست الصورة الفلسفية في التحليل في نطاق ما دعاه Deleuze سنة 1992 بـ: عودة الفلسفة ،وفي ملمح عاكس ومفاجئ لهذا الوضع في أمريكا مثلا، أين اصطبغت المحاولات التحليلية بروح فلسفية خالصة (وهي بلد الفانتازيا البراغماتية) ،من خلال طروحات جدلية مميزة (ومثيرة) لمسائل اجتماعية إنسانية معقدة كصراع الهويات ومصير الانسان والايديولوجيا (المنتصرة و المهزومة) ،فكان أن التأم عقد الفلسفة والفضاء العام عبر تداول ما تناوله هانتنغتون وفوكوياما وتوفلر، وسجل –بالاندهاش – الفكر السجالي المحدث الذي لطالما ارتبط بالدياليكتية الهيجلية والنيوماركسية،عائدا من جديد على يد "أنبياء" النيوليبرالية الجدد.
ان تداول الوضعية الحالية لابستمولوجيا العلوم الاجتماعية في اطار تنبؤي لا يعد جديدا على أي حال ،لقد ارتبط بمحصلات المشروع الاستراتيجي لبعض التجارب السياسية المهيمنة –الأمريكية بالخصوص – شعورا منها بالقلق المتعاضم لمجرى التنافس الذي يجمعها بالخصوم من جهة ،وعلى اعتبار أنها في مجملها تقدس الأفكار الحرة القلقة مثلها لما يخبأه المستقبل من مفاجآت من جهة أخرى .
لقد اتسعت دائرة النقد الثقافي لمحصلات وسائل الإعلام ومنتجاتها خلال العشرين سنة الأخيرة لتشمل تركيبا جديدا لم يألفه الخطاب الأكاديمي (في أوروبا بالخصوص) ،وهو التحليل "المتكئ " على لغة المستقبليات أو ما يهز البناء من أساسه كما كان الفيلسوف الفرنسي جون بودريارد (J. Baudrillard) يدعوه، سرعان ما دخلت الإنسانية في عصر الاتصال لا الإعلام ،وسرعان ما تهاوت سطوة الرسالة أما سلطان التقنية أو الوسيلة ،فضلا على نكوص وفوضوية المجالات التعبيرية للعقل "الاداتي" ،بفعل تعدد شخوص المرسلين داخل فضاءات /منصات تواصلية أتاحت للجميع مخاطبة الجميع .
لم يكن الأمر سهلا علينا في تحليل مضامين المؤلفات المركزية الثلاثة (وهي المعنية بقضايا هذه الدراسة)، إن من ناحية الدافعية للمناداة بهكذا أفكار، أو من جانب وضعها محل نقاش أكاديمي جاد يرفعها عن الانفعالات اللحظية للكتابات الصحفية السريعة، ويزداد نسق الصعوبة في خلفيات المؤلفين نفسهم، فليسوا على فضاء تخصصي واحد (بوريس بود B.Beaude هو مهندس معلوماتية بالأساس) ،وهذه بحد ذاتها نقطة انعطاف معرفي جاءت لتؤكد تشظي معطيات الفضاء الاتصالي على نحو اشرك الجميع في فهم مدلولاته و استجلاء ثناياه.
اللقاء المقبل
الجزء الثاني: في نهاية الصحافة والصحف
*نسبة للمنجم الفرنسي الشهير Michel de Nostredame (1503 – 1566) الذي استعان ببعض رموز الكتب المقدسة في وضع تنبؤات عن أحداث وحوادث مستقبلية، ونفس الأمر عند الإغريق وعرافتهم "دلفي" أو" بثيا Pythia"
*يتعلق الأمر هنا بـ:
- Jean louis missika .La fin de la télévision. Paris : Seuil et La république des idées, 2006
- Bernard Poulet .La fin des journaux et l’avenir de l’information. Paris : Gallimard, 2011
- Boris Beaude .Les fins d’internet .Paris : FYP éditions, 2014
* « Le dépassement » عند جيل دولوز G. Deleuze (1925-1995)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 27 أوت 2020