أنطولوجيا وسائل الإعلام..محاولات في مسألة "النهايات"_ في نهاية الصحافة والصحف

 

 

المؤلف : الأستاذ سعيدات الحاج عيسى

المؤسسة: قسم الاعلام والاتصال، جامعة الأغواط

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني  عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث: مخبر سوسيولوجيا الاتصال الثقافي :القيم ،التمثلات ،الممارسات

 

 

 

 

 

 

 

الجزء الثاني: ... في نهاية الصحافة والصحف

 

           .."ما ثماش مقدمة في النص الصحفي ..ثمة مطلع " ،ومعناه "ليس هناك مقدمة في النص الصحفي ،هناك مطلع" والعبارة تم اجتزائها من محاضرة ممتعة لأستاذ الصحافة التونسي "توفيق المثلوثي" أواخر سنة 2001 ،ألقاها خلال أحد الملتقيات الخاصة بالصحفيين المغاربيين ،وللأمانة فقد أثار المتدخل هواجس عديدة تتعلق بمدى "صمود " هذه النواميس الفنية للمهنة الصحفية تحت ضربات انتشار الوسائط التقنية الوافدة آنذاك ،التي بدأت تمارس صنوف "الإغراء الاستعمالي " على المتلقين من الجمهور ،وتتمرد على المشهد الاتصالي المتجاوز،كما وضع جماهير القراء الذين نشاؤا على يقينية ما تطرحه الصحف من مضامين وفق فنون الاجتذاب والألوان الخبرية ،أمام "عنف" رمزي جديد اتخذ من الصحافة التقليدية نفسها منصات للتفكيك والتشظي ،بتسخير الوسائط التقنية كخادم خدوم لكبرى الصحف العالمية والوطنية (الطباعة الرقمية الفاخرة ،"تابليت" العرض المباشر للمراسلين الحربيين،الهاتف المرئي الشهير لـ "بيتر آرنيت" الذي استخدمه لصالح شبكة "سي أن أن" سنة 1991...الخ) ،هذه الأحزمة التقنية سرعان ماانفك ارتباطها في سقوط ميلودرامي "فانتازي" في حضن عولمة السلع المعلوماتية في عالم ما بعد صائفة 1993  .

           لعل سردنا لهذه الأمثولة، هو ما يشفع لمؤرخي الصحافة حيرتهم المتزايدة حيال العمل التصنيفي المنبثق من أولوية التعاطي مع المسألة من زاوية الأحداث أم الأفكار، وهل صيرورة الوسيلة هو ما يربطها مع الحدث الاجتماعي العام للإنسانية، أم من خلال التداعيات المتعددة لها على الفضاء التقنوي (الخاضع للتنافس المحموم في تطوير جهد الآلة /الجهاز، نحو الاختزال المضطرد الدينامية الالكترونية على حساب قوة التعضيل البشري)؟...

        لكن برنار بولي لم يعد اختراع العجلة ولا اكتشف الدائرة من جديد ،فالنقاش حول أزمة الصحافة والصحف لم يثر على وقع تهديدات الانترنت(خصص للأنترنت فصل كامل من كتابه مع فصل خاص بمحرك البحث "غوغل "وحده) ،لكن ذلك حسب أستاذ الصحافة المرموق لعياضي نصر الدين ،يرجع لفترة طويلة ،فلا ننسى أن "لوموند Le Monde"  مثلا عبر تاريخها الطويل، لم تتوقف عن الصدور إلا في مناسبتين (يومين) خلال صائفة 1984 ،بفعل صعوبات متعددة يرجع أغلبها إلى هجرة رؤوس الأموال ومعها القراء والنخب المتفاعلة  إلى فضاءات إعلامية و اشهارية أخرى ،غير أن منظور الأستاذ لا يرتبط بحجوم التوزيع والمقروئية ،بقدر ما يعود إلى ما سماه بأزمة البراديغم الشاملة [1]،فالتحول في حقل الصحافة كان عميقا (لما للظاهرة الاتصالية من تجذر بنائي/وظيفي بالأساس ) ،والتحولات المتقاطعة في مجال الصحافة طالما كانت في أتون الثنائية الكبرى في الحقل الاجتماعي الوظيفي :البنية والنظام ،عبر جدلية التلازم و الاضطراد.

         قام بولي (B.Poulet) في مؤلفه المشار إليه بتشخيص مستفيض لظروف عمل المؤسسات الصحفية المكتوبة، كان من دواعيه الموضوعية مرجعية المؤلف نفسه (برنار بولي رئيس تحرير صحيفة L’expression الفرنسية) ، فازدحمت السطور بكم كبير من المعطيات الإحصائية المهمة، سواء المتعلقة بتراجع حجوم الطبع والبيع والتوزيع، أو بالميزانيات المرصودة للاستثمار في المجموعات الصحفية في فرنسا والعالم المتقدم.

          يؤكد بولي على القول على أن ظهور وسيلة إعلامية جديدة لم يتسبّب في اختفاء الوسائل التي سبقتها، فالإذاعة لم تتسبّب في اختفاء الصحافة المكتوبة، والتلفزيون لم يقضِ على الإذاعة،غير أن  لم ننتبه إلى أن الجرائد اليومية العامة الكبيرة ، التي كانت توزّع ملايين النسخ في بداية القرن العشرين لم يبق منها اليوم سوى عددا محدودا لا يتعدى الأربعة،[2] (يومية "يوميوري " اليابانية من 13مليون سنوات 90 إلى 8 ملايين سنة 2015 )، أما الإذاعات الكبرى فقد تراجع معدّل المستمعين إليها إلى النصف منذ ثمانينات القرن الماضي، كما أن القنوات التلفزيونية تفقد سنوياً عشرات الألوف من مشاهديها،جاءت هذه الحقائق الموضوعية لتؤكد أمرا مهما ،مفاده أن اهتمام المجتمعات بالإعلام الخبري يتآكل أو يضمر سنويا، فاستهلاك الإعلام الإخباري يعيش اليوم أدنى مستوى له منذ نصف قرن. [3]

         فضلا على أن ما يطرحه من مضامين نقاشية تتعدى سلطة وسائل الإعلام المعيارية (كمحدد من محددات الصراعات السياسية والاجتماعية في نطاق الأحزمة الثقافية للمجتمعات)، إلى ترابطات عضوية لهذه الوسائل كمؤسسات اقتصادية متنافسة وفق عقيدة المبادئ الليبرالية الصرفة (dogmes anciennes)، مما يبعث على استخلاص القارئ لمركزية غربية راسخة لا يعنيها باقي مجتمعات العالم الأخرى في شيء.

سوف لن نشتبك مع المعطيات الكمية والتقديرية لهذا الكتاب المهم (والموجود له عديد التلخيصات والترجمات على الشبكة العنكبوتية)، بل ما يهمنا في الأساس، هو محاولة رسم الأفق التحليلي –المستقبلي لهكذا معضلة وجودية، نقلت النقاشات العلمية إلى فضاء عدمي ذكرنا بتيار فلسفي ما يزال سجين التحقيب التاريخي للفكر الإنساني الطوباوي غير الجدلي، انعكس في محاولات أندريه بروتون وفوضويو اليسار الاشتراكي ،في ما بدا أنه إعادة ترتيب ثقافوي-إيديولوجي لمشكلات المجتمع المعاصر.

 

            تنعكس أهمية مؤلف بولي -حسب اعتقادنا-في ثلاثة فضاءات: 

            أولا، الفضاء الاقتصادي لحتمية الزوال "التجاري" للمنتج الصحفي كدعامة تسويق /مبادلة /قيمة استثمارية ،تنبري فيه الماكينة الاقتصادية لتصفية القاعدة التوريدية للصحف بدعوى التراجع والانحسار في نشاط المعلنين ،مع إخفاق التوازن الذي كان يضمنه الاستهلاك النهائي والحدي لجماهير القراء ،( في 2008  وصلت عملية توزيع الصحف إلى أدنى مستوى لها منذ 1946، وذلك بواقع 53 مليون مشتر، في مقابل 62 مليون عام 1970، ومع نمو عدد السكان، فذلك يعني هبوطا بمعدل 74 في المائة) [4]،لتتوالى الاستنتاجات الإحصائية الخاضعة في أغلبيتها إلى الدورة الاقتصادية "المالتوسية" الجديدة ،لكن التوسع هنا لا للعنصر الديموغرافي المتزايد ،بل في إعادة توزيع الاستهلاك المضطرد لوسائل بديلة ،أي أن التراكم الثروي سوف يبتعد على الجرائد نازعا للمصادر المنافسة أو الاستخدام المتاح/المفتوح/المجاني  ،وقد أكد ذلك مؤسس شركة «آبل» السابق "ستيف جوبز"، في أنه من غير المفيد الاستثمار في صناعة المواد الصحفية الإلكترونية ووسائل القراءة الإلكترونية الأخرى، لأنه قريبا "لن يوجد هناك من يقرأ".

       ثانيا ،الفضاء المهني الوظيفي المقاوم في معظمه عن الكينونة الطبيعية لوظيفة "الإعلام "أو إتاحة المعلومة لمحاصرة الحدث ،التي يتولى جزء لا يستهان به من كتاب الأعمدة والمحررين حمل لوائها ، ويتحجج عدة محررون مرموقون تجاهلهم لما تهدد به الوسائط الإعلامية الجديدة ،بكونهم يتمتعون بـأسماء قوية مهنيا (plumes ) ،يتّجه نحوها مستخدمو الإنترنت آليا ،كونهم يحوزون رصيدا من الثقة والمصداقية المقرونتين بأسماء العناوين الصحفية التي ينتمون إليها ،وهذا ما من شأنه دحض "اللامعيارية" الكاملة التي يحكم بها المدعون بزوال الصحافة كقيمة معنوية ،على الأقل تضمن ديمومة النسق القرائي في الإعلام المكتوب .

      ثالثا، عن الفضاء الفكري أو النظري، اعتبر "بولي "أن الاستثناء الذي مثلته فرنسا لم استناءا ثقافيا عاما يريد أن يكبح جماح العولمة (الأمريكية المتعجرفة دائما)، أو على الأقل تنظيم أدوارها ،بل كان (الاستثناء) متجاهلا للحقائق الماثلة أمام كبار مديري الجرائد الكبرى ،الذي يدفع بعضهم الى اعتبار  ما لقدسية العلاقة بين القارئ الفرنسي وجريدته ،هذه الأخيرة-يؤكد المؤلف- ستنسحب من بين يديه على وقع التراجع الرهيب في الإشارات المبوبة والتوريدات المنتظمة للمؤسسات ،فضلا على تحول المحررين الى صغار ملاك جدد لمصادر الكترونية - وإن بصفة غير معلنة – وتذمر المصاحفين   collaborateurs،بفعل الديون الخانقة  (خلال سنة 2007 وحدها كانت ديون لوموند مثلا 100 مليون يورو) .

       يطرح بولي مسألة نهاية الصحف المكتوبة –وليس نهاية الصحافة المكتوبة –من زاوية "الانتفاء" أو ضمور الدور الاقتصادي والمؤسسي للجريدة ،وهي قضية معقدة بلغت في فرنسا درجة "التابو" الفكري ،في حين أنها طرحت في أمريكا وكندا عديد المرات ،وذلك راجع بالأساس الى تحول في المسلمات الفكرية في الوقت الراهن (رغم أننا نلحظ بسهولة أن بولي لم يورد طيلة كتابه تحليل فكريا لمفكر من المفكرين ،فأغلب شهاداته المستقاة هي لملاك ومديري نشر أو مستثمرين كبار ) ،هذه المسلمات هي بالضرورة حاملة للغة و"لوغوس "العصر الحالي ،المتميزة أصلا بالحتمية الاقتصادية للرأسمالية المتصاعدة "المعولمة" ،هذا ما يقدمه الراهن من استقطاب فكري يؤدي في نهاية المطاف إلى الغاء لأدوار ومؤسسات في إسار أوضاع جديدة لا ترحم .

 

 

إلى اللقاء المقبل

الجزء الثالث :نهاية التلفزيون

 

 -------------------------------

[1] - نصر الدين،لعياضي .أزمة ،فوضى، نهاية أو نشأة مستأنفة :محاولة لفهم التحولات التي تعيشها الصحافة وتأويلها .

مجلة سمات،المجلد 4 ،العدد 1،كلية العلوم الإنسانية،جامعة البحرين ،ص 166

[2]- Bernard Poulet .La fin des journaux et l’avenir de l’information. Paris : Gallimard, 2011 pp 29-38.

[3]- Ibid,p 21.

[4]- Ibid,p51.

 

 

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة