
أنطولوجيا وسائل الإعلام _محاولات في مسألة "النهايات"_في نهاية التلفزيون
المؤلف : الأستاذ سعيدات الحاج عيسى
المؤسسة: قسم الاعلام والاتصال، جامعة الأغواط
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث: مخبر سوسيولوجيا الاتصال الثقافي :القيم ،التمثلات ،الممارسات
أنطولوجيا وسائل الإعلام
..محاولات في مسألة "النهايات"
الجزء الثالث:... في نهاية التلفزيون
إلى زمن قريب ، ظل معاصرو بدايات الحرب الأهلية في لبنان(1975-1990) يتندرون بما سموه "الجنرال تلفزيون " ،وهي حادثة اقتربت من اللغز التاريخي الباعث على الاستغراب والطرافة ،كان بطلها أحد كبار ضباط الجيش اللبناني يدعى "عزيز الأحدب" ،الذي –وفي خضم تفجرات الموقف بين أطراف النزاع الطائفي المسلح - لجأ إلى تسجيل خطاب تلفزيوني قام فيه بقراءة البيان رقم واحد (المشهور لدى العسكريتارية العربية ) ،وعمد من خلاله إلى مطالبة الرئيس بالاستقالة والفصائل المتحاربة إلى الذوبان مع مبادرته وإلا واجهت التصفية ،لكن صديقنا هذا ما أن فرغ من بث بيانه وتهديداته ،حتى اختفى عن الأنظار كليا ، وسط دهشة المتخاصمين غير الآبهين أصلا بجدية بطل الرهان السياسي الجديد ،وسرعان ما دخل الأمر برمته ضمن متناقضات وألغاز المشهد اللبناني المعاصر والمتنافر بالأساس .
هذه الحادثة –في فضاءها العربي –جاءت لتبرز حمى الرواج المتعاظم للتلفزيون كوسيلة تخاطب وتأثير أعادت نوادر ومشاهد العصر الذهبي لنظريات التأثير الشامل والقوي والفوري خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين الى الواجهة، على وقع هروب الصفوف الأولى لقاعة سينما في نيويورك، وفرارهم جريا حين عرض فيلم قصير لقطار سريع قادم بلقطة مكبرة جدا، لم يقو المشاهدون على تحمل "مخياليتها".
عقيدة الفناء ..بعد الرواج :
بأسرع من ضربات قبضة ملاكمو المنازلات المحترفة سيسقط "البطل المهزوم" مترنحا ..هذا هو المشهد الفانتازي المركب الذي سيضع جمهور وسائل الإعلام مشدوهين أمام هذا الواقع "المشهدي" المهرب من أحد أفلام الـ:"بيست سيلر "الهوليودية ،بهذا الوصف -الخادع في رأينا – عمد "ميسيكا" إلى تصوير نسق تهدم قصر الرمال "أي التلفزيون" ،بفعل سطوة "الديلي موشين" و"اليوتيب" والبوردكاستبينغ التعاقبي..من جهة،وجملة معقدة من مرحلة جديدة من إفرازات ما بعد الحداثة التي يعيشها المجتمع الغربي من ناحية أخرى .
حسب المؤلف، تؤكد آخر الإحصائيات أن الوقت المخصص لمشاهدة التلفزيون يتناقص، بشكل واضح جدًّا لدى الشباب على وجه التحديد. إن القناة التلفزيونية تتحرك وفق العناصر الآتية: توصيل الصور المتحركة إلى البيت، وبرمجة المواد التلفزيونية وبثها وفق مواعيد محددة، والوصول إلى أكبر عدد من المشاهدين. ففي الوقت الذي تنحصر فيه المشاهدة التلفزيونية وتصبح محدودة جدًّا، وتتشذّر(يسميها ميسيكا L’hyper- segmentation)،إلى حد أن تصبح فردية، وتختفي تقاليد المواعيد المحددة لمشاهدة البرامج تدريجيًّا، تاركة المجال لأنماط أخرى من المشاهدة؛ مثل: التلفزيون الاستدراكي، والفيديو تحت الطلب، والاشتراك في نظام الفيديو تحت الطلب، فإننا نلج عالمًا مختلفًا، فهذا العالم يقترح وجود عدد كبير من الصور المتحركة والبرامج المصورة المقدمة إلى الجمهور، لكنها لا تشكل تلفزيونًا بالمعنى التقليدي للعبارة. ويجب أن نضيف له المنصّات السمعية البصرية في شبكة الإنترنت؛ مثل: «اليوتيوب» و«الديلي موشن» التي تسمح ببث المحتويات التي ينتجها الأشخاص العاديون والهواة، وتغير بعمق العلاقة القائمة بين من يبث الصور ومن يتلقاها، وهي لم تعد ثابتة ومستقرة كما كانت في السابق.
من هذا المنطلق انتقلت الكتابات عن التلفزيون، من الطابع الانببهاري (الخمسينات حتى بداية السبعينات ) النقدي /الثقافي السجالى (الثمانينات حتى نهاية التسعينات )،ثم الانطولوجي /العدمي، فالترابط النسقي الذي يطرحه التلفزيون للجمهور عندما كان الوسيلة الأكثر استقطابا (يدعوها المؤلف بالهيمنة ) قد اهتزت بفعل الشروخ التي أحدثتها التحولات المعيارية للإنترنت ،من مواد جامدة متعثرة في التعامل مع بروتوكولات الصورة والصورة الحية مطلع التسعينات.
لعل الجديد في مقولة نهاية التلفزيون-حسب الباحث المرموق الصادق الحمامي-لا تكمن في الأداة فقط، بل في التغيير الذي طرأ على مفهوم الجمهور في ظل استشراء ظاهرة ما بينية وسائل الإعلام Intermédiaté ،مما يدفع للسؤال عن ماهيته ومآله في ظل بروز وسائل الاتصال الجماهيري الفردية Self mass media ( (الصادق الحمامي، 2008 ) والتساؤل، أيضا، عن حدود الهوية الافتراضية التي تتيحها الشاشات العديدة في سعيها للقفز على "محرمات" الهوية الاجتماعية.
فترة "ذهبية" ..شعارها الفوضى
لقد كانت الثمانينبات والتسعينيات –حسب ميسيكا – عقود التلفزيون الذهبية، ولا أدل على ذلك الا "غضبة" فيلسوف فرنسا الشهيرة ب .بورديو،في خضم اضرابات 1995 الكبيرة ،لقد "احتوت" حسبه التقنيات الاخراجية للزمن التلفزيوني شروحات وتحليلات السوسيولوجيا المتأنية ،وعملت الاختصارات الفنية للصورة واكراهات التنشيط الفنتازي على "القفز" على القضايا ،بحجة الوقت ،لقد جسدت المسرحية العربية الشهيرة "كاسك يا وطن " مطلع الثمانينات هاته الأمثولة بعبارتها الكاريكاتورية :" كل البرامج تشكو من ضيق الوقت، وضيق الوقت يشكو من كل البرامج ".
وبرغم تميز تلفزيون الثمانيات والتسعينات بالفقر الثقافي الحاد –حسب أعمدة التحليل السيوسيولوجي ذو التوجه اليساري النشط – ومسؤوليته الكاملة على تردي نسق الجمال والتوضيب الذوقي المتسامي (العبارة قد تثير السخرية ضمن عوالم الديجيتال الهاتفي المعاصر) ،فإن أقصى ما توصل اليه فلاسفة الليبرالية الأمريكيين في ندوتهم المنعقدة في جامعة كولومبيا سنة 1996 من توصيف للتلفزيون ومستقبله ،هو ما خلفه هذا الأخير من "التباس" في العلاقات الإنسانية ،عبر ما يعرضه من اشهارات – الذي هو بالأساس عملية تجارية – راكمت التمايزات بين المكونات العامة للمجتمع الأمريكي ، المتأثر بالإشهار التلفزيوني ،من اختيار فرشاة الأسنان، الى وضع الظرف داخل الصندوق لانتخاب الرئيس.
لقد أفلت ما سمي بالنمط المهيمن للتلفزيون (وهي عبارة أطلقت على القيم المعممة والمفروضة كخطاب وممارسة اجتماعية ) ،من دائرة الحجاج الأخلاقي الى فضاء التنافس الليبرالي المحموم (لم تعد الإباحية مثلا مسألة قيمية أخلاقية بقدر ما صارت سلعة قابلة للتداول ) ،فكان أن تصاعدت احتجاجات جماهير المشاهدين على "سلعنة" المضامين المفرطة ،فضلا على حالات الاستقطاب الحادة الناتجة عن التدليس الشديد للوقائع السياسية والصراعية ،في صورة حروب الخليج المتتالية (1990-2003) ،حين شعر عموم المشاهدين بوقوعهم تحت نوع غريب من ديكتاتورية الصورة التلفزية.
لكن المفارقة هنا -حسب الغذامي-هي أن الكيانات المهمشة هي المستهلك الحقيقي للصور التلفزيونية، وهم الذين يقضون أوقاتا طويلة في مشاهدة التلفزيون، وهذا يؤدي -حسبه -الى فعلين مزدوجين، أحدهما يفضي إلى التأثر والآخر نقدي رافض (الغذامي، 2004) ..
لقد اندهش الجمهور الجزائري بداية الثمانينات من مشاهد مسلسل دالاس الشهير، (ملابس السباحة-الابن غير الشرعي -صراع الحموات المحموم -ماركات السيارات ...)، في صورة صادمة لنمط حياة باذخ سطحته الدراما الصابونية بامتياز، فيما انبرى الخطاب الاجتماعي المعياري المحافظ للإدانة الانفعالية الواسعة، لكن -وأمام فراغ برامجي محلي رهيب -جاءت الدراما التلفزيونية بعدها بنفس القوالب القيمية للصورة المتخيلة/المنتحلة للحياة الاجتماعية، حتى لو كان المسلسل أو التمثيلية مصريا أو سوريا أو تركيا بعدها بسنوات.
لقد اتفقوا على اسلابنا:
قبل السقوط "اللذيذ" في خطاب المؤامرة المفسر للأحداث والأفكار، اقتضى الأمر من مؤرخي التحليل السوسيو-ثقافي لوسائل الاعلام، ترتيبا جديدا لجدلية الفكر الاجتماعي بعد تهاوي عصر الأيديولوجيات، فكان الأمر واضحا لدرجة السطوع عبر مؤلفات عالم مابعد 1989، إذ اعتبر "د.بونيو" و"سيرج برولكس" في العام 1991 أننا ببساطة في عصر الاتصال (إنه اتصال ضد إعلام)، ايديولوجية جديدة خالية من الكيد الاستراتيجي والجدل الدوغمائي، لكن مفعمة بالفانتازيا والألوان البصرية ولا يهددها الا الفناء أو ميلاد ايديولوجيات بديلة -وهذا مستبعد بقوة والكلام لبونيو D.Bougnoux-تتولى اقناع الجماهير العريضة بهجرة هذه الوسائل نحو فضاءات أخرى .
يعرض "ميسيكا " في شكل نبوءة تقترب في طبيعتها من الكوميديا السوداء بخصوص "مستقبل" هذا الجهاز الضخم (التلفزيون):"ما سيحدث هو أن الإنترنت ستبتلع التلفزيون، كما هي الحال الآن، والإذاعة، والصحافة المطبوعة. سيكون هناك تلفزيون في شبكة الإنترنت. والذين يريدون متابعة النموذج التقليدي للتلفزيون بشبكة برامجه التي يعدها غيرهم سلفًا، أو الموجهة بـ:"خوارزمات"، يمكنهم فعل ذلك، وسيمنحون الأدوات لتحقيق ذلك. سيظل الاستهلاك الساكن والسلبي للتلفزيون قائمًا. استهلاك الصور المريح والبطيء عبر إجراءات البرمجة التلفزيونية المعهودة "، فلننتظر لنرى.
الهوامش:
- pierre ,Bourdieu. La télévision peut-elle critiquer la télévision? Analyse d’un passage à l’antenne. Le Monde diplomatique, Avril, 1996, p25
- الحمامي، الصادق. 2009. تجديد الإعلام: مناقشة حول هوية الصحافة الإلكترونية. المجلة العربية للإعلام والاتصال، مج. 2009، ع. 5، ص ص. 74-114.
- الغذامي، عبد الله.الثقافة التلفزيونية، سقوط النخبة وبروز الشعبي، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 2004، ص41وما بعدها
- - Proulx, Serge. L'explosionde la communication à l'aube du XXIe siècle. La Découverte, 2002
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 15 أوت 2022