الحقيقة المحمدية ووحدة الأديان

 

المؤلف : أ.د.بلحمام نجاة

المؤسسة: قسم الفلسفة

جامعة وهران2

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني

 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث: الأبعاد القيمية للتحولات الفكرية والسياسية في الجزائر،

جامعة وهران2

 

 

 

  

شكل الحديث عن الحقيقة المحمدية في التصوف الإسلامي –القديم  منه والمتأخر- الأساس المعرفي والعرفاني للنظريات المتصوفة سواء في كتاباتهم الفلسفية أو في أشعارهم ودواوينهم، وهذا  ما  نلمسه خاصة في  كتابات محي الدين بن عربي، هذا الموضوع (الحقيقة المحمدية) شكّل المبدأ الأول في التصوف لإرساء نظرية وحدة الوجود، وارتبط موضوع الحقيقة المحمدية بعدة  مخارج معرفية وعرفانية، من  بينها وحدة الأديان التي تؤسس لمفهوم التسامح والتعارف والحوار، ويقصد بالحقيقة المحمدية حسب سهل التستري* (الذي يعتبر أول من  قال بالحقيقة المحمدية)، تقدّم خلق نور محمد صلى الله عليه وسلم في الكون، يقول محي الدين بن عربي: "إن الحقيقة هي ما هو عليه الوجود بما فيه من الخلاف والتماثل والتقابل"1، ويقول زكي مبارك: "فالله لما خلق الخلق جعلهم أصنافا وجعل في صنف خيارا واختار من الخيار خواص وهم المؤمنون، واختار من المؤمنين خواص وهم الأولياء، واختار من هؤلاء الخواص خلاصة وهم الأنبياء، واختار من الخلاصة نقاوة، وهم أنبياء الشرائع المقصورة عليهم، واختار من النقاوة شرذمة قليلين وهم صفاء النقاوة المروقة، وهم الرسل أجمعهم، واصطفى واحدا من خلقه هو منهم وليس منهم، هو المهيمن على جميع الخلائق جعله الله عمادا أقام عليه قبة الوجود، وجعله الله  أعلى المظاهر وأسماها، صحّ له المقام تعيينا وتعريفا فعمله قبل وجود طينة البشر  وهو محمد  صلى الله عليه وسلم"2.

وتشكّل الحقيقة المحمدية النظرية التي بنى عليها المتصوفة مبدأهم في وحدة الوجود، هذا الأساس يجعل النبي صلى الله عليه وسلم أصل كل شيء وأصل الموجودات، إنه ليس فقط النور الأزلي الذي ظهر مع خلق آدم أو قبله، وإنما محمد صلى الله عليه وسلم هو أساس الكون وأصله.

هذا يعني أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو منتهى كل الأسماء والصفات وهو مجمع حقائق اللاهوت وأسرار الملكوت، فأصل جميع الأسماء الإلهية المضاف إليها الربوبية هي في وجود محمد صلى الله عليه وسلم، فالحقيقة المحمدية هي صورة لمعنى ولحقيقة ذلك المعنى، وتلك الحقيقة هي حقيقة الحقائق، يقول عبد الرزاق القاشاني: "هي عرش الروح الأعظم الذي استوعب  القرآن العظيم حين  تجلى الله عليه بالذات، لأن الله لا يتجلى بالذات إلا عليه لأنه النموذج الأول الأعظم، ولأنه خليفة الله في الأرض ولأن الخليفة يحاكي المتخلّف في الصفات، بل هو  مظهر الحق فيكون الإسناد إليه"3.

يتساوى معنى الحقيقة المحمدية مع فكرة الإنسان الكامل التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم، يلخّصها الأمير عبد القادر الجزائري في  قوله: "أول مخلوق تعيّن في الحضرة العلمية منه  جميع ما في العالم الكبير والصغير، بحيث لا يخلو منها  صورة من صور هذا العالم، وهذا المفهوم يحتل الإنسان موقفا وجوديا في هذا العالم لا  يماثله  فيه موجود من موجوداته كائنا ما كانت صورته، وهو وإن كان له ذلك فليس إلا لكون حضرة الجميع والوجود مقصورة عليه وحده بوصفه حقيقة الموجودات فهي باطنه، وهي أيضا ظاهره"4.

والحقيقة المحمدية تجعل محمدا صلى الله عليه وسلم أكمل مظاهر الكون، وهو (أي محمد صلى الله عليه وسلم) مظهر لهذه الحقيقة، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم نور أزلي قديم وجد قبل الأكوان وقبل آدم عليه السلام، ومن هذا النور انبثق الأنبياء، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو سر الوجود وحقيقته وإن كان هذا السر وجد في زمان ومكان محدّدين.

وكل النصوص القرآنية جاءت لتأكيد هذه الحقيقة بجعل محمد صلى الله عليه وسلم أصل الوجود، يقول الله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا"5، فاللّه تعالى جعل في هذه الآية نور محمد صلى الله عليه وسلم أقوى الأنوار جميعها، هذا النور هو إنارة للأنوار العقلية البشرية، يقول تعالى: "مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ"6، فنور محمد صلى الله عليه وسلم يشابه المصباح، فلم  يكن أقرب إليه تعالى في ذلك النور إلا محمد صلى الله عليه وسلم.

ويعتبر النبهاني**النور المحمدي قديم قدم وجوده، ويستدل في ذلك بقوله  تعالى: " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ" 7، ولم يقل سنعطيك ليدل على أن هذا الإعطاء حثل في الزمان الماضي، ولا شك أن ما كان في الماضي عزيز  مرعي الجانب أشرف ممن سيصير"8.

ووجود محمد صلى الله عليه وسلم قديم  قدم الخلق، وفي هذا  يستشهد  عبد الكريم الجيلي بقوله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"9، إذ  في رأي عبد الكريم الجيلي أن صلاة الله  على النبي غير مرهونة بزمن معيّن، فكان الفعل "يصلّون" على صيغة المضارع، مما يعني صلاة الله علي نبيّه وصلاة الملائكة عليه لا تنقطع  في زمن ما، بل هي دائمة ما دام الوجود.

يرتبط وجود محمد صلى الله عليه وسلم بوجود الخلافة، يقول تعالى: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"10، فالخلافة هنا هي روح الخلافة المحمدية وأصلها ومبدئها، هذه الخلافة ظهرت تمام الظهور في حضرة اسم الله الأعظم الذي هو أصل الحقيقة المطلقة المحمدية الظاهرة في الحضرة لاتحاد الظاهر والمظهر، ولابد أن يكون الخليفة ظاهر بصورة مستخلفه، أي بأسمائه وصفاته، والخليفة واحد في كل زمان.

تأخذ فكرة أسبقية الوجود المحمدي على وجود الكائنات عند الصوفية أهمية بالغة كأساس يرتكزون عليه في تبيان حبّهم لهذه الحقيقة، في هذا يقول التستري:  "من لم ير نفسه في الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ير ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأحول لم يذق حلاوة سنته بحال"11.

أسهب المتصوفة في أشعارهم ودواوينهم في التعبير عن محبتهم للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، يقول السهروردي:

"هيَ خَمرةُ الحُبِّ القَديمِ وَمُنتَهى        غَرض النَديم فَنعم ذاكَ الراحُ

هي أسكَرَت في الخلد آدم                 فكستهُ منها حلَّةٌ ووِشاحُ

وكذاك نوحٌ في السفينة أسكرَت           ولهُ بذلك تأتانٌ ونواحُ"12

 

ونور محمد صلى الله عليه وسلم وحقيقته تفيض على الكـون بهاء ونورا ، يقول ابن عربي:

" إنِّي رأيت له نورا يضيء به                أهل السَّماء إذا عينٌ تُوفِيه

من الضِّياء الذي فيها حقيقَته               وحقِّه وسوى هذا يعفِيه "13

 

وتشكّل الحقيقة  المحمدية الأساس الذي اعتمده ابن عربي في بناء فلسفته الوجودية، يقول: " كان نبيا وآدم بين الماء والطين، ولهذا بُدِئ به الأمر وخُتم"14، فبذلك صحّ للنبي المقام تعيينا وتعريفا، يقول  ابن عربي:

"ألا بأبي كان ملكا وسيدا                وآدم بين الماء والطين واقف

فذاك الرسول الأبطحي محمد           له في العلا مجد تليد وطارف

أتى بزمان السعد في آخر المدى      وكان له في كل عصر مواقف

أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه         فأثنت عليه ألسن وعوارف

إذا رام أمراً لا يكون خلافــــه             وليس لذاك الأمر في الكون صارف"15

 

فالحقيقة المحمدية وجدت في صورة كل نبي ورسول، وهذا النور (النور المحمدي) ينتقل إلى الأولياء فيسقطون صفاتهم ليستبدلوها بالصفات المحمدية، فيكون الكمال أو الإنسان الكامل، فالصوفية يرون أنهم من يستحقون هذا اللقب، إنهم بهذا المفهوم أقطاب زمانهم فهم الإنسان الكامل الذي يجب أن يتعامل معهم الخلق وكأنهم النبي صلى الله عليه وسلم فيتأدبون معه ويأخذون عنه "لكون حقيقته هي المدبرة للعالم وكل شيء موجود ومعلوم يوجد عندها حاضر بالقوة والفعل"16.

كذلك فكرة القطب والغوث عند الصوفية تحمل معنى خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنزلته، إذ نظروا إليه نظرة الإنسان الكامل الذي يحقق العدل، كونه يملك حقيقة التعاليم الإسلامية التي عمل بها الخليفة في الأرض وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفكرة الحقيقة المحمدية تنتهي إلى اعتبار الاختلاف في الأديان هو في التسمية فقط، فالأصل واحد والحقيقة واحدة وإن كانت طرق العبادة تبدو بأنها مختلفة، فالأصل الملائكي للإنسان والذي يرتبط بالحقيقة المحمدية تجعل أن الحواجز أو الفروق بين الأديان هي وهمية، على اعتبار أن كل الأديان تدعو إلى الإيمان بالله واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يقول بن عربي:

" لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي       إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صار قلبي قابلا كل صورة             فمرعى لغزلان، ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طـائف                  وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت             ركائبه فالحب ديني وإيماني"17

 

فالأديان في تصور ابن عربي بحسب نظرية الحقيقة المحمدية، هي مختلفة من حيث الظاهر، أما من حيث جوهرها فهي واحدة، فاختلاف العبادات لا يعني تعدد الآلهة لأن صور العبادة جميعها تدعو إلى عبادة الله، فكل صور الأديان تقوم على ذات التصور الذي جاء به سواء القرآن الكريم أو توراة موسى أو صحف إبراهيم...، في هذا يقول ابن الفارض:

" وما زاغت الأبصار من كل ملة              وما راغت الأفكار من كل نحلة

وما احتار من للشمس عن غرة             صبا وإشراقها من نور إسفار غرتي

وإن عبد النار المجوس، وما انطفت         كما جاء في الأخبار في ألف حجة

فما قصدوا غير، وإن كان قصدهم            سواي، وإن لم يظهروا عقد نية

رأوا نوري مرة فتوهّمـــــــــــــــوه         نارا فضلُّـــو في الهدى بالأشعــــة"18

 

كما يقول الحلاج:

" تَفَكَّرتُ في الأَديانِ جِدّ مُحَقّق       فَأَلفَيتُها أَصلاً لَهُ شَعبٌ جَمّا

فَلا تَطلُبَن لِلمَرءِ ديناً فَإِنَّهُ               يَصُدُّ عَنِ الأَصلِ الوَثيقِ وَإِنَّما

يُطالِبُهُ أَصلٌ يُعَبِّرُ عِندَهُ                   جَميعَ المَعالي وَالمَعاني فَيَفهَما"19

 

هذه التصورات الإيجابية لوحدة الأديان منبثقة من شخصية محمد صلى الله عليه وسلم التي دعت إلى المحبة والوحدة والتعارف، والتي تلمس في حقيقته الخلقية التي عبر عنها الشاعر مسعود بورصاص في قصيدته "العروبة"، والتي التمس من خلالها الصفوة والأمان في الحقيقة المحمدية، يقول:

"محمد  فيهم صفوة العباد

هو الدّمِثُ الأمينَ مدى الصّباء

حدَا ردحا بقطعانٍ وشتاء"20

 

بهذا  يكون النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الحقيقة الأبدية التي تبنى عليها حقيقة الكون وحقيقة الأديان، وبذلك يستحق هذا النبي الكريم السيادة على الخلق أجمعين ويزيد من رفع مقامه من بين الأنبياء، يقول بلقاسم خمّار:

"وبِحُكم كل العَارفين  بِقَدره    هو سيِّد الرّسل الكِرامِ الأمجدُ

حتى الذين تخلّفُوا عن دينه    قالوا: بحِكمته نُقِرُّ ونَشهـــــدُ"21

 

 

---------------------------------------- 

*  -هو أبو محمد سهل بن عبد الله التستري بن يونس بن  عيسى بن عبد الله بن رفيع، أحد أئمة القوم وعلمائهم، ولد  في تستر بالأهواز سنة 200 هـ وتوفي سنة 283 هـ.

[1]  -ابن عربي محي الدين، فصوص الحكم، تعليق أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1980، ص 5355.

[2]  -زكي مبارك، التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، ج1، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، د ت، د ط، ص48.

3  -القاشاني عبد  الرزاق، اصطلاحات الصوفية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1970، ص 87.

4 -الأمير عبد القادر الجزائري، المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف، ج3، موقف 370، تحقيق عبد الباقي مفتاح، ج 1، دار الهدى للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 2005، ص1172.

5 -سورة النساء، الآية 174.

6  -سورة النور، الآية 35

**  -هو العلامة يوسف بن اسماعيل بن  يوسف النبهاني، شاعر وأديب وصوفي من  فلسطين، ولد سنة 1265هـ وتوفي سنة 1350 هـ.  

7  -سورة الكوثر، الآية 1.

8 -النبهاني، يوسف، الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية، ضبطه الشيخ عبد الوارث محمد  علي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 2003، ص 232.

9 -سورة الأحزاب، الآية 56.

10  -سورة البقرة، الآية 30

11 -النجار عامر، الطرق الصوفية في مصر، نشأتها ونظمها وروادها، دار المعارف، القاهرة، ط5، د ت، ص116.

12 -زيدان يوسف، شعراء الصوفية المجهولين، دار الجيل، بيروت، ط2، 1996، ص 33.

13 -ابن عربي محي الدين، الديوان، شرح أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1996، ص 415.

14 -ابن عربي محي الدين، فصوص الحكم، مصدر سابق، ص 214.

15 -ابن عربي محي الدين، الفتوحات المكية، ج 2، تحقيق عثمان يحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1985، ص 326.

16 -زيدان يوسف، الفكر الصوفي عند عبد الكريم الجيلي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، د ط، 1988، ص 11.

17 -ابن عربي محي الدين، ديوان ترجمان الأشواق، مصدر سابق، ص ص149-150.

18 -ابن الفارض عمر، الديوان، تحقيق هلال هيثم، دار المعرفة، بيروت، ط2، 2005، ص 72.

19 -قاسم محمد عباس، الحلاج أو الأعمال الكاملة، رياض الدين للكتب والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2002، ص 322.

20 -بورصاص مسعود، وجد وتأمل، دار القصبة للنشر ، الجزائر، د ط، 2006، ص 92.

21 -خماربلقاسم، الديوان، مجلد 1، أطفالنا للنشر والتوزيع، الجزائر، د ط، دت، ص 297.

.

 

الأستاذة بلحمام نجاة

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة