
السينما من منظور فلسفي:قراءة فينومينولوجية للصوت والصورة
المؤلف : أ.د.مراد قواسمي
المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة مستغانم
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث :الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2
ما هي وشائج اللقاء ما بين الفلسفة والسينما ؟ أو كيف يتحقق الجمع ما بين الفلسفة باعتبارها خطابا مجرّدا موجّها إلى فئة بعينها، وبين السينما كحقل إبداعي موجّه إلى عموم الناس قائم على الصورة المنمزجة بالفكر والخيال بكيفية جديدة مقارنة مع الفلسفة.
إن الفلسفة والسينما بعيدان كل البعد، من الناحية التاريخية، عن أي انتساب، فإذا كانت الأولى قد عرفت بداياتها منذ ما يربو عن 26 قرنا من الزمان كأقل تقدير، فإن الثانية لا يتجاوز عمرها القرن ونصف القرن من الزمان. هذا من الناحية التاريخية، وأمّا فلسفيا، أي نظريا ومعرفيا فإن المسافة فيما بينهما تكاد تكون أوسع من الزمانية الموجودة بينهما، نظرا لأن أفلاطون قد حدّد حدود كلّ منهما، لا بصورة مباشرة وإنما بناء على ما تقوم عليه كلّ واحدة منهما، فالفلسفة لا تهتم إلا بما هو، أسمى وأرقى، بينما السينما ليس مجال اهتمامها يدخل إلا في جانب الخيال والذاكرة ومواطن انشغال الحواس، وذلك ما ينبذه أفلاطون في الحقيقة.
فالسينما بما هي حقل خصب للإبداع والتخيل تشغل الفيلسوف في الكثير من المناحي نظرا لكونها قادرة على التوجّه بالإنسان نحو التفكير والاندهاش وعطائه،من خلال ما تخلقه من صور جديدة للحياة، فرصة تجديد فهمه لذاته وللعالم من حوله، وهاهنا يلتقيان في كونهما نظرة حول العالم ورؤية عنه.
لا يتكرر هذا الموقف الفلسفي من السينما مع دولوز، بل يجد اهتماما أكبر بكثير مع ما لقيه في سالف الزمان، وذلك لأنه قد حدث تحوّل في التفكير، وفي الفكر واهتماماته، فبعد ما كانت نظرية المعرفة قائمة على نموذج الحقيقة الواحدة وقطبية الواحد، أصبحت لاحقا تخضع لرؤية "نسق المتعدد"، أي على "الاختلاف"، فبدلا من أن تقوم الرؤى في كهف أفلاطوني تستمدّ كيانها من سطوح ملساء ومنثنية تسمح بالخضوع لـ"منطق المعنى" الذي لا يعيد الاعتبار فقط للسطوح، بل يمنحها حقوقها كاملة (وبالتالي يمكن اعتباره تصدّيا حاسما للفلسفة الكلاسيكية التي لم تول الاهتمام إلا لما هو عمق)[1] والأكيد أن أحد هذه السطوح قد يكون سطح شريط محمّل بالعديد من الصور والأصوات التي لم يكن أفلاطون يتصوّر بأنها ستحقق في يوم ما، والكثير من الحقائق التي يتعذّر وجودها في عالم الحقيقة وفي باحة الكهف التي لا تعترف إلا بـ"منطق الأيقونات" الصافية من الخيال والساعية نحو التنقّي والشواش، التي تمثّلها كلّ السيمولاكرات، النسخ والأشباه.[2]
في واقع الأمر فإنه لا يمكن أن تقوم السينما إلا على هذه النسخ والأشباه والسيمولاكرات، ففيها وحدها تتجسد الصور وتتعدد الأصوات وتتكرر الأحداث تكرارا دوريا وتعود عودا أبديا، الأمر الذي يجعل من الصورة السينيمائية والصوت السينيمائي علامات لوجود عالم حقيقة آخر وجديد قابل للعودة والتكرار.
إن الاشتغال الفلسفي بالسينما لا يعني أن هناك تدخّلا في كيفيات الإخراج أو طرق الاشتغال بصورة عامة وإنما يتعلّق الأمر بإنجاز قراءة لها عن بعد، إنجاز مسافة يمكن من خلالها التدقيق في أهم مفاهيمها، من خلال الاستقلال عنها، وهو ما يمكن أن يتحقق مع الفينومينولوجيا، فالأمر يتعلّق، بدرجة أكبر، بضرورة التفكير في الوحدات الأساسية التي تقوم عليها السينما من مفاهيم، نظرا لأن الفلسفة الفينومينولوجية هي التي يمكنها استيعاب الإمكانات التي يقوم عليها هذا الفن السابع، الأمر الذي لا يمكن العثور عليه حتى في السينما نفسها، فالفيلسوف هو الذي يمكنه، وحده، التفكير واستحداث مفاهيم وترسانة تكون لديه القدرة من خلالها على وعي خصوصية الممارسة السينيمائية[3].
من هذا المنطلق فإن الخلفية التي ننطلق منها هاهنا هي، على غرار الخلفيات أو مناهج التحليل النفسي أو اللساني أو السيميولوجي، فإننا نقيم هذا العمل على رؤية فينومينولوجية للسينيما في وحدتيها الأساسيتين: الصورة والصوت، بحيث تمثّل الصورة خطابا مرئيا، بينما الصوت هو عبارة عن خطاب مسموع لامرئي، أو بلغة أخرى السينيما بما هي أحد أنماط العطاء الفينومينولوجي الحقي في تعاملها مع وحدتي الصورة والصوت، في علاقتهما بالزمان، على أن هذا العمل لا يدّعي القول بأنّ الفينومينولوجيا قد تناولت مباشرة تحليل السينما بطريقة أو بأخرى.
المرئي السينمائي، فينومينولوجية الصورة:
الرؤية مرآة الانعكاس وارتجاع جسدانية المحسوس، في جلائه اللانهائي، إنها "ميلاد مستمر" لما يستيقظ بصورة مثالية، والمعنى الذي تشير إليه الفينومينولوجيا لتعريف ذاتها هو معنى الوميض، الذي يثير انتباه البصر، كما أن فيها دلالةً على النّظر لكل ما هو مرئي، ينبُعُ عن وميض النّور لتحمل بذلك معنى: أن يكون الشيء مرئيا (Visible)، الصورة (Photos)، النور (Lumière)[4]، وهو المعنى الذي يتوافق مع فكرتي "الظهور" و"الظاهرة" لأنهما تشتركان في ماهية النور والإيضاح، علما أن نعطي الدلالة الأنطولوجية للإيضاح هي البداهة بامتياز، "وللفظ الظاهرة معنى ثنائي بموجب التضايف الجوهري بين "الظهور"/التجلي(Apparaître) و"الظاهرة" (Ce qui apparaît) بالرغم من أن الأمر يعود إلى الدلالة على التجلي/الظهور نفسه، الظاهرة الذاتية[5]، وهذا ما يفككه هيدغر في الفقرة السابعة من "الوجود والزمان" (Etre et temps) مشيرا إلى أن مفهوم "الفينومينولوجيا" الذي يـنقسم: إلى "فيـنومين" أي ما يتجلىّ، هذا الذي يتجلّى (Cela qui se montre)، المـ-تجلّي (Le se-montrant) أي الذي لا ينفك يظهر عـلى الـدوام في صـيرورة دائـمة مسـتمرة ولا ينقطع أبدا، كما يعنـي أيضا البيّن (Le manifeste)، والإيضاح أو حمل الشيء إلى موطن النّور (Amener au jour) وتسليط الضوء عليه (Placer en lumière)، وهذه المفاهيم كلها مشتقة من اللّفظ اليوناني (Phos) الذي يعني النّور (Lumière) وشفافية الوضوح، يعني، أيضا، الشيء الذي يصبح بيّنا وواضحا من ذاته، ومرئيا بذاته[6]، أمّا لوغوس (Logos) تعني العقل (Raison)، الذي يحيل إلى الكلمة (Parole) والقول أي إضفاء البيان على ما تقوله الكلمة، واللوغوس يلعب، أيضا، دور الوسيط (Médiateur) الذي يساعد القول على البيان، إنه يجعل القول مرئيا، كما يعني عموما الإبانة والإظهار، الذي يحمل دلالة جازمة (Apophantique)[7] أي قطع القول والخروج من التردّد والتخلّص من الغموض وكشف حقيقة الشيء نفسه، وتلكم هي دلالة اللّفظين حسبما يتبحّر هيدغر في معانيها اليونانية بما هو فيلولوجي.
تقوم كل من الفينومينولوجا، إذن، والسينما، على الإدراك البصري، الذي يؤخذ من دائرة حاسة البصر والمشتق من الأصل اليوناني (theôria) من (theôren) بمعنى "رأى بالعين"، وأيضا المفاهيم الفرنسية ذات الأصل اللاتيني: (contemplation) من (contemplare) بمعنى تأمل، و(speculation) من (speculare) بمعنى "نظر"، و(intuition) من (intueri) بمعنى "رأى".تعود الاشتقاقات الدلالية القديمة لمفهوم الصورة* (image) إلى الأصل اللاتيني (imitari) الذي يحمل معنى المحاكاة، وأيضا يحمل دلالة (imago) التي تعني "تمثل" (représentation) و(portrait) صورة، أي تمثّلا عن الواقع، متراوح الدّقة، إذ يقوم على محاولة التماثل مع هذا الواقع، ومحاكاته، على أساس أن هناك نوعا من الحركة التي تتضمنها هذه الصورة، وهو مجال السينما، ووفقا لما يحدده سارتر فإن الصورة هي "فعل الوعي الذي يقصد موضوعا من حيث إنه يطرحه في غيابه باسم بديل يلعب دور المماثل"[8].
بهذا المعنى يمكن القول بأن الفينومينولوجيا من أكثر الفلسفات قابلية لتداول الصورة سواء في حركيتها السينيمائية أم في جمودها الفيزيائي، فالموضوع واحد ونفسه، إنه الصورة، وفي الصورة قوام السينما، بموجب أن تلك التي لم تخضع، منها، إلى عملية المونتاج هي صور أكثر إشارية وتعبيرا عن الحقيقة من كونها صورا أيقونية، تعبيرية، فهي مجرّد أيقونات تحاول تقديم الحقيقة بالتأثير على الطبقة الحساسة من حيث إنها تتلاعب بالعين عبر سلطتها الضوئية فتمكّنها من الحصول على عطاءات حسية يمكن إدراكها ووعيها ومن ثمة تحقق إمكان استحضارها بما هي أحد أنماط العطاء الفينومينولوجي "لإدراكي إلى الحس بالأصالة وهذا راجع لكونه (أي الإدراك) متعلّق بالرؤية (Vision) أساسًا وبالسّمع وباللّمس، ومن هنا فإن هوسرل يصرّ على التجسّد الحسّ-حركي (Kinesthésique) للوعي الإدراكي بجعل الجسد هو الساحة المركزية والأولى في العلاقة مع موضوعات العالم، والصورة على رأسها[9].
من أهم الانتقادات الفلسفية للصورة تلك التي قدّمها هوسرل فيما يخص الطابع الشيئي للصورة، الصورة ليست شيئا أي ليست محتوى ماديا في الوعي تنقله الحواس إليه، إذ لاوجود لثنائية المادة والوعي، بل هي موضوع قصدي بسيط على شاكلة الأفعال القصدية الأخرى التي يتمتع بها الوعي الفينويمنولوجي، فقد أفرغت قصدية الصورة عند هوسرل الصورة من شيئانيتها "أفرغت القصدية الوعي، وجعلته دون محتوى، فبفضلها صفا الوعي وأصبح واضحا كريح شديدة، أصبح لا يشوبه شيء إلا حركته ليخرج من ذاته. ليس فيه شيء إلا ذبيبه خارج ذاته. وإذا حدث ما لا يمكن حدوثه ودخلتهم في وعي ما، يأخذكم الدوار ويقذف بكم إلى خارج، قرب الشجرة، وسط الغبار، لأن الوعي لا داخل له (…) وإذا حاول الوعي أن يعود إلى ذاته ويتحد معها وينغلق على نفسه انعدم"[10]، ومن هنا فإن الصورة تخضع لقانون الفينومينولوجيا ـ الوعي وعي بشيء ما ـ أي أنها صورة لشيء ما، وعموما فإن عملية تسليط الضوء على بنية الصورة في قصديتها يصبح من الممكن نقل من درجة الوعي الستاتيكي إلى درجة الوعي التركيبي من حيث إن هذه العلاقة لا تكون إلا مع موضوع ترانساندانتالي، وبالتالي لن تبقى رائح الشيئية والفيزيقية تشوب مفهوم الصورة، فالصورة نمط من الوعي، إنها فعل لاشيء(L’image est un acte de conscience).
فلو كانت السينما هي الوعي لوجدنا بأنها تتكوّن من جملة نشاطات الصور وأفعالها في تشكيل الفيلم السينمائي، إنها الوحدة الرئيسية التي يقوم علها الفيلم، حيث "تشكل المادة الفيلمية الأولية، ولكنها الأكثر تعقيدا أيضا، لأن تكوينها يتميز، بالفعل، بازدواج عميق: فهي نتاج نشاط أوتوماتيكي لآلة تقنية قادرة على إعادة إنتاج الواقع الذي يتقدم إليها بدقة وموضوعية. غير أنها في نفس الآن، نشاط موجه في الاتجاه المحدد والمرغوب فيه من طرف المخرج"[11].
ولعل هذا ما يتّفق مع رؤية جيل دولوز في تقسيمه للصورة إلى صور:
1. الصورة-الإدراك الحسي (image perception) وتقابلها اللقطة العامة (plan général).
2. الصورة-الإدراك الوجداني (image-affection) وتقابلها اللقطة المكبرة (gros plan)
3. الصورة-الفعل (image action) وتقابلها اللقطة المتوسطة (plan moyen).
إن الموقف الفينومينولوجي هو بحث في المنابع الأصيلة والمقامات العليا من: رؤية وحدس، على غرار معنى الإبصار والتفتح على الأشياء التي يقصد منها اليونان "تحصّل الشيء نفسه" لأجل أن يكون هناك تطابق مع الفكرة والمثال الإغريقي المتأصّل في قصديّته التي تعود إلى كونها حدس الأشياء في عينيتها، بلحمها ودمها.
ولكن في الوقت نفسه فالفينومينولوجيا لا تشتغل على الموضوعات بما هي محتويات للوعي وإنما بما هي دلالات ومعان (Significations et sens) لأجل أن تتمّ رؤية الشيء في ذاته، أي أنها علمٌ بالماهية أو الصورة المستقلّة أساسا، على غرار المفاهيم الرياضية، ولكن كيف يتمّ التعرّف على الصورة فينومينولوجيا ؟.
يتم التعرّف على الصورة من حيث إنها تحمل هذا المعنى أو ذاك، فهي إنما تُحدَس بالرؤية العقلية المباشرة التي تقصد الموضوع بما هو هذه الظاهرة تحديدا، ما يعني أن هذه "الدلالة" أو هذا "المعنى" هما اللذان يُحصّلهما الوعي من الصورة، وما الوجود والواقع سوى عرضيات وجزئيات، ومن هنا يمكن التوصّل إلى أنّ وجود المعنى مرهون بوجود الصورة نفسها، وليس بوجود الشيء، ظاهرةُ الوعي إذ تَسبغ دلالاتها على الأشياء، وهو ما يحيل رأساً إلى استقلالية معنى الصورة المرئية في الوعي عن الوجود.
لقد كانت بدايات الفينومينولوجيا اهتمام بالصورانية المنطقية للموضوعات المتماثلة والموضوعات الرياضية، ليغدو المنطق "نظرية الصورة" (La théorie de la forme) وليس فن العلامات أو الإشارات[12] (L’Art des signes)، أي أن كل معنى لا يخرج عن كونه تلك الصورة الدلالية لمجموعة الإشارات الكامنة في الوعي ليس أكثر، وهو ما يمكن من خلاله فهم الصورة السينمائية بما هي أحد أنماط العطاء الفينومينولوجي.
إنّ مثالية الدلالة الفينومينولوجية للصورة تسمح باتفاق المحتوى الفعلي (Réelle) لفعل التمثل مع الماهية القصدية على صفة التمثّل والمادة"[13] ذلك أن المحتوى الواقعي، يتكوّن في الأساس من مكوّنات منفصلة لا تنتمي إلى الماهية القصدية، إن المحتويات المدرَكة في وعي الفعل (في الماهية القصدية) أي الإحساسات و الصور التي تنضاف إلى العديد من التمثلات المخيالية المختلفة، هي أيضا متعددة الالتباس، ما بين الصورة والمحتوى إلى الوضوح الفلسفي، حتى تستمد معانيها على مستوى مبانيها و صورها، إنها مباني ذات معاني صورية متشابكة تتناول المعيشات (Vécus) الفكرية بماهي "ماهيات".
الفينومينولوجيا، إذن، هي العلم بالظاهرة، إنّها درس المتجلي في جلائه، الأمر الذي يعني إمكانية إدراك الوجود في أعراضه الخارجية، و الاهتمام بالصورة قائم على أنها لا تدخل في إطار مطابقتها للموضوع كما ذهب إلى ذلك بيبرس (Pearce)حينما تحدث عن علاقة الدال بالمدلول داخل الأيقونة والمؤشر (الثقافة) والرمز، وإنّما تقوم الصورة السينمائية (وحتى الفوتوغرافية) على استحضار الماضي والراهن (الحاضر الحي الذي أصبح ماض)، ذلك أنّ تجلي الصورة هو زمانها بما هو شيء قد مضى وما عاد راهنا، أي أنها تجمع بين الميت والحي وبين الخيال والواقع في الآن نفسه، إنّ الصورة تعمل على منح الحياة لما هو ميّت وماض، أي تعطيه قدرا من الاستمرار في الحياة، إن الصورة تقتل من أجل أن تخلّد الكائنات، فإطار الصورة بما هو إطار جهاز العرض (Exposition) (الذي هو السينما كجهاز) يحيل إلى نهاياتها، تناهياتها وتخومها أي إلى موتها كما يرى رولان بارث (Barth) أن هذا الأخير يدخل في علاقة مع ما يسمى (خارج الإطار) كما تصوره جان رونوار(Renoir) ، مثلما هو الحال بالنسبة للسينما يمكن للصورة أن تحيل المشاهد إلى ما يقع خارج الإطار إما على مستوى الفضاء أو على مستوى الزمان في هذه الصورة.
تدفعنا الصورة الفنية، والحالة هذه، إلى تفسير الحياة بالفكر والتأويل وهي ليست نفعية جامدة، وإنما تحيى حياة داخلية في الفرد، "إن الصورة السينمائية تحتمل معالجات قد تبدو متناقضة ومتطرفة، وهي تضم في إطارها، الشكلانية البحتة، والصورة الطبيعية والمضمونات الدرامية واللادرامية، والتسجيلية والخطوط التجريدية والرسومات المسطحة والصورة بمنظورها الكلاسيكي والصورة المستندة إلى السيناريو والصورة المرتجلة"[14].
تهتم السينما بالواقع وإمكانات عكسه في رؤى فنية، وهو ما تشترك فيه مع الفينومينولوجيا إذ كلّ منهما يعمل على نقل المعيش من حياته الأصلية، فالسينما نوع من النقل الأصلاني للمعيش قبل-الحملي بما هو صورة واقعية تعبّر عن حياة وتجربة إنسانية، وهاهنا يمكن للصورة أن تعكس الواقع وأن تقدّم صورة أصلية عنه، أي أن حصيلة عدسة الكاميرا هي الحقيقة الموضوعية نفسها ولكن قبل أن يتمّ الصرّف فيها وإعطائها معان مؤوَّلة و متعدّدة الأوجه، ذلك لأن الكاميرا هي أيضا عين تبصر وترى وتشارك الحياة تجربة المعيش.
لقد كانت السينما في بدايتها تعتمد على الصور لأجل تقديم أفلام تسجيلية تستهدف الإحاطة بأحداث الواقع في دقائقها، بحيث كان رهان كل سينمائي متمثلا في نسخ هذا الواقع وتسجيله في مواثيق بصرية تتكلّف مهمة حفظ أحداثه، نفسها، بلحمها ودمها، في "صفائها ونقائها"، وذلك تلكم هي الخاصية الفينومينولوجية الرئيسية للسينما مجسّدة في الآلة التي تكتسي خاصية الرؤية والإبصار، ولكن في المقابل فإن ما يتم إنتاجه من صور جامدة أو متحرّكة تتسم أيضا بإمكان آخر ماثل في أنها تخالف الواقع من أجل ابتغاء حقيقة أخرى تختلف عن الصورة ذاتها، وكأنها تحمل رسالة مخالفة لمضمونها، لأن كل إنتاج إلا و"يحمل معه نصيبه من الكذب" (docu-ment) كان العمل أكثر ابتغاء للدقة والأمانة ذلك أن الكاميرا لا تنقل الواقع في صورته الكلية والشفافة وإنما تقطّعه وتشذّره، ومن ثمة تستعيد تركيبه وتأليفه بحيث يعمل المؤلّف على قول ما يريده هو أو ما تريده القصة والسيناريو وهاهنا مكمكن التخييل والتنويع المخيالي الذي تقوم عليه الفينومينولوجيا.
وبعدما ظهر التلفيزيون اكتسب مجال التنويع فتوحات أكبر، وبالتالي اتسعت عملية المحاكاة لتتجاوز التقليد إلى التنويع الأكثر غنى بالصور بأكبر قدر ممكن، فقد تحررت السينما من سلطة الوفاء للواقع، أي أصبحت القصدية السينمائية قصديات متعددة ومختلفة في تعددها المخيالي، فما حدث هو إمكان إنجاز آثار فنية وإنتاجات جمالية تعبر فنيا عن الواقع والوجود يتمثّل قوامها الأساسي في الخيال الذي يصور ملامح عالم وعوالم جديدة ووهمية تنتقل بالنفس نحو مملكة الجمال، ولكن من دون إنكار بقاء الواقع بما أصل ومنبع مصدر الإبداع الفني، فهو مضمون تجربة المعيش، فهو الذي يمنح العالم الفني قوامه ينتعش خياله التواق إلى السفر بعيدا عن العالم المرئي، فمن المرئي إلى اللامرئي تبدأ وتنتهي رحلة السينما.
والحال هذه فإنه لا يمكن فصل السينما بما هي ملكة الاتصال عن الواقع ولكن تلك الملكة التي سرعان ما تطلق عنانها للتخلص من قيوده للتجه إلى عوالم ذاتية مبدعة أي تلك التي تنطلق من حيوية الواقع نحو ثراء المخيلة والفانطاسمات، فهذه الفانطاسمات هي أحد إمكانات الحقيقة، فالرؤية الفينومينولوجية تجمع هاهنا بين مدرستين مختلفتين: مدرسة تقليد الواقع والانطلاق من أصالته إلى جانب مدرسة السرحان في عالم المخيال والسرد والتنويع الفني، أي أن منطلقها هو الفيلم الوثائقي ويكون انتهاؤها في الفيلم المغرق في الخيال والممكن إدراكه على سبيل حدس العطاء المخيالي، أي ضرورة التنويه إلى الانتهاء إلى أعمال غودار على الخصوص، إلى الوصل بين الأدب والفلسفة من جهة والسينما بعدما يتم البدء من إنجازات من نوعية أفلام لويس أراغون التي لا ترى في السينما سوى مرآة عاكسة لواقع بائس كان أم متفائل.
من بين الاعتقادات السائدة تمجيد المكتوب وتحقير المرئي، في حين أن الرؤية الفينومينولوجية تستعيد للمرئي سيادته ومكانته، فالسينما ليست مجرّد وسيلة تسلية فقط وإنما هي أداة بليغة لتبليغ رسائل فلسفية وإنسانية الأمر الذي يجعل منها أحد مواطن الاهتمام الفلسفي والنقاش والجدال النظريين، لأنه ليس المكتوب وحده هو الذي يحمل رسالة وإنما المرئي قد يكون أكثر إفصاحا عن مضمونه، وحتى المسموع، وحتى وإن كانت الصورة نرجسية فإنما تلكم هي الذاتية التي تعبّر عن اكتمال الواقع فيها لا لأنها تنعكس على ذاتها وتموت فيها وإنما لأنها تقول ما لا يمكن قوله بالكتابة، أو بالأحرى فالصورة هي شكل آخر من أشكال الكتابة، والسينما كتابة بالصور تحمل رسالات وأفكار وقناعات...إنها العلاقة القصدية ما بين الكتابة والصورة والسينما التي تتضايف مع بعضها البعض من دون أفضلية ولا أسبقية، وهو ما يجعل من الإنسان يعرف كيف يخلق لنفسه إمكانا من الإمكانات لأجل ممارسة التفكير، فالتفكير سواء في المكتوب أو في المرئي إنما هو تفكير في نهاية المطاف، فالسينما تمنحنا القدرة على التفكير، إذ تقوم بإحداث نوع من الصدمة على مستوى الفكر، فتنقل إلى الجهاز العصبي ذبذبات خاصة (…) فكأنها تقول، معي أنا الصورة-الحركة (image-mouvement)، لن تستطيعوا أبدا الإفلات من هذه الصدمة (choc) التي توقظ المفكر النائم بداخلكم[15].
إن الصيرورة التي تتضمّنها الصورة-الحركة تدفع المتفرّج الفاعل إلى التفكير وتدفعه دفعا لإحداث التغيير والحركة، فيتحرّك بحركيتها ويتغيّر بتغيّر لا على أساس التأثّر السلبي وإنما على أساس أنه يكتسب طاقة فاعلة قد تتركها فيه السينما مثلما تتركها فيه الكتابة أو الرواية أو حتى المسرح.
إن المقصود هاهنا بالسينما تلك الممارسة الفنية التي تمنح إمكانية التفكير بأسلوب مختلف في ذات المشاهد وفي العالم من خلال صنع صور مبتكرة للحياة في تقاطعها مع الخيال الفني، الذي ينعكس في إمكانية صياغة التضايف التالي: الصورة-المفهوم (L’image-concepte) الأمر الذي يجعل من السينما فن صناعة الصورة مثلما يقول، جان كوكتو، على غرار الفلسفة بما هي فن إنتاج المفهوم[16].
من الآن فصاعدا يبدو بأنه ستكون هناك إمكانية جديدة للتعامل مع استحضارات من نوع آخر، افتراضية هي بما أنها قابلة لإعادة الإنتاج وحتى أنها صور-هيولية، أي صور بلا صور، نظرا لأن المونتاج يسمح لها بأن تأخذ أشكالا غير تلك التي تم التقاطها لأجل التعبير عن حقيقتها هي نفسها كصور، فتصبح لا-صورا، بل بالأحرى تتحول إلى صور مغايرة لذاتها ومختلفة عنها، تخضع لمنطق حسي متغيّر، منطق صيروراتي وهو ما يتوافق مع التحديد الذي يتقدّم به والت بنيامين (Walter Benjamin) إذ يرى بأن "السينما في أوّل مقاماتها وسيلة تعبير تتوافق مع قدوم إعادة إنتاج ممكنن (Mécanisée) للآثار الفنية، الأمر الذي يعني بأن السينما تقوم، بموجب التغيير الصيروراتي، بمهمة تأويلية مغرقة في تأويليتها للصورة السينمائية قائمة على الافتراض و إمكانات الاستحضار الاستيطيقي (سواء كانت صورا أم أفلاما...) وهنا تكمن قابليتها للإدراك بالنسبة لمختلف المعاني، ما يجعل السينما فنا زاخرا بإمكانات الرواج عل المستوى الاستهلاكي، فالمرئي الذي يعدّد من تجلياته يكتسي نوعا من الغوائية الذي تستدعي إقبال المعجبين به، والمستهلكين له، محاولة منه (أي المرئي) في إشباع الرغبة السحيقة من خلال القيام يتطهير الزمان وتأنيسه، أي خلق حركية وديمومة للصورة تكتسي جمالية إنسانية تختلف عن تلك الحالة الوضعية الفيزيائية التي تم التقاطها فيها، أي أنسنة الصورة بامتياز، وهو ما يبيّنه أندريه بيزان" (André Bizin) في أنطولوجيا الأثر السينيماتوغرافي[17]، ومن هنا فإن السينما تقوم أساسا على خلق نوع من استقلالية الصورة التي يمكن التصرّف فيها وفي زمانها من حيث إنّ الصورة التي تمّ التقاطها تخالجها زمانية أخرى غير زمانيتها، وهذا بعدما تمّ تحنيطها في لحظة أولى كانت عبارة عن جماد، لتتحول إلى شبح أو طيف يمكن منه رؤية ما لا يرى في الواقع المحنّط، كما يكون مادة أولية لما يسمى بالتنويع الخيالي الفينومينولوجي.
وهاهنا فإن السينما تتعامل مع أطياف وأشباح من حيث هي متناقضات تتمتع بعطيّة التنوع، بما هي مادتها الأولية، إذ يقول دريدا "الطيف هو دمج متناقض، و إن الصيرورة جسما لتعد شكلا ظاهريا و جسديا للنفس، و إنه ليبقى بالأحرى شيئا تصعب تسميته؛ إنه ليس روحا، و لا جسدا، و مع ذلك فهو الواحد و الآخر . ذلك لأنه اللحم، و الظواهرية، هي التي تعطي إلى النفس ظهورها الطيفي ، ولكنها تختفي مباشرة في الظهور ، في مجيء العائد نفسه ، أو في عودة الطيف .. و هذا الكائن الغائب ، أو المختفي لم يعد يصدر عن المعرفة ، و إنه على الأقل أكثر مما نعتقد معرفته باسم المعرفة "[18]. هذا ما يجعل من الطيف والشبح أكثر قربا للأداء الملتبس المجرد الذي تريده السينما من أجل خلق إمكانات مفتوحة لقول الحقيقة، فالطيف يعمل على تمثيل الوعي وإقصائه في الآن معا، وهاهو يقول "إن السينما هي فن الأشباح ، و معترك الأخيلة ؛ و هذا هو ما أعتقده عنها ؛ فهي حين تتخلى عن الضجر ، تصير الفن الذي يسمح للأشباح بالعودة، والظهور، مثلما نفعل نحن الآن"[19].
اللامرئي السينمائي، فينومينولوجية الصوت.
لا تكتفي السينما بمخاطبة العين فقط وإنما تلتمس أيضا خطاب الأذن، وهذا رغم أن ظهوره قد كان متأخرا نوعا ما عن ظهور المرئي، أي الصورة، وهذا التأخر نفسه على ما يبدو بأنه هو الذي جعل منه لامرئيا، ولكن في الوقت نفسه هو أكثر تأثيرا على المرئي منه، ذلك أنه يصل إلى المسامع رغم ابتعاد المسافة بين مصدره وبين الأذن المنصتة، المستمعة، إضافة إلى أن صفة اللامرئية تجعله قادرا على اختراق الجدران والامتلاءات فيصل ويبلّغ رسالته، الأمر الذي يجعل منه أكثر سلطة وأكثر حضورا من اللامرئي، وتلكم هي جدلية اللارؤية والسمع، أو بالأحرى موهبة الأذن في التقاط الأصوات ولعل حرمان الصوت من الظهور في السينما كأولوية يرجع إلى محاولة التخفيف من سلطته في الحضور ومركزيته في الحوار، أي أن بدايات السينما كانت عبارة عن محاولة لتجاوز السلطة الصوتية لصالح السلطة المرئية من أجل عطاء الوجود لها.
بعدما تقوم الفينومينولوجي بتعطيل (Mise hors circuit)الصوت الطبيعي، فلن يتبقى سوى الديمومةٌ الفينومينولوجيةٌ، أي الإدراك المباشر للصوت الذي يتقوَّمُ البَدءَ الوحيد الممكن والحقيقي بما هو اليقين الأصلي للتأمّل في الصوت بما هو ديمومة: "كي يقدّم وعي جريان الصوت، اللّحن الذي أُصغِي إليه حاليًا، "سيرورة"، لدينا عنه بداهة تضرب عبثيةَ كلّ شك وكلّ نفي"[20]، إنّ هذه البداهة محايثة للذّاتية بصورةٍ محضة، قبل كل طرح وجودي، وعليه تبدو، البداهة المطلقة لـ "الصوت" الفينومينولوجي، ممكنة وضرورية.
في المقابل، لكي لا تكون الذّاتية سيكولوجية ومنغلقة على نفسها، لكي لا تكون منتوجًا متقوَّمًا من قِبَلِ السينما بصورة منفصلة عنها ومتقوّمة لها، أي أكثرَ أصالة، ينبغي احترام، في هذه المحايثة، مبدأ القصدية والتقوّم المباشر لوحدة الصوت الماضي، الحاضر، المستقبل...إلخ[21].
إن وعي الصوت السينمائي* بما هو ماضي، على سبيل المثال، في حال تقوُّمِهِ في وعي محايثٍ للزّمان، هو موضوعية لابدّ من تمييزها عن الموضوعية الزّمانية "الواقعيّة" الواقعة تحت وطأة الرّد**، فلا يمكن بواسطة التّحليل الفينومينولوجي الالتقاء مع أصغرِ جزءٍ من الصوت الموضوعي، ذلك أنّ "حقل الصوت الأصلي" ليس قطعةً من الصوت الموضوعي، وليس الـ"آن" الصوتي المعيش نقطةً من هذا الصوت نفسه، فهذه التّسميات: صوت موضوعي، نوتة موضوعية حوار موضوعي... للأشياء والأحداث الفعلية، تُعتبر كلّها مفارقات[22].
من خلال مثال الصّوت كـ"موضوع-الزّمان"، لأجل توضيح تجلّيه في صورة شبكة مزدوَجَةٍ من القصدية التي تتّفقُ مع الإمساك (Rétention) والإطلاق(Prétention) ، كما ينبغي الاحتفاظ بـ "الآن" (Maintenant) وأخذ، في الوقت نفسه، تضخيم هذا الآن في عمق يبتعدُ أكثر فأكثر، وثمّة بداية مسيرة الصوت الفينومينولوجي، أصل كلّ صوت، أي الصوت بما هو ديمومة.
يقول هوسرل فيما يتعلّق بالأطوار الزّمانية للدّيمومة ما يلي: "يمكنني أن أوجّه انتباهي نحو الكيفية التي ينعطي بها [الصوت]. أنا على وعي بالصّوت وبالدّيمومة التي تملؤه في استمرارية الـ "أنماط" في "سيل مستمر"؛ نقطة، طور هذا الصّوت تسمى "الوعي بالصّوت في بدئه" ولدي وعيٌ باللّحظة الأولى من ديمومة الصّوت، في نمط الحاضر.
ينعطي الصّوت، أي أنا على وعي به بما هو حاضر، ولكن لدي وعي به بما هو حاضر "طويل" بأطول مما أنا على وعي بأيّ طورٍ من أطواره الحاضرة. ولكن لو أنّ أي طورٍ زماني مهما كان حاضرًا راهنيًا [باستثناء الطّور البدئي] فأنا حينذاك على وعي باستمرار الأطوار وفقا لما لديها محلّ في اللّحظة البدئية إلى غاية اللّحظة الحاضرة بما هي ديمومة جارية لا بما تبقى من الصّوت، أمّا في اللّحظة النّهائية أكون على وعي بكلّ الدّيمومة بما هي ديمومة جارية [أو بالأحرى الأمر كذلك في اللّحظة الابتدائية من الامتداد الزّماني الجديد الذي لم يعد امتدادًا ذو صدى]، وأثناء كلّ هذا السّيل من الوعي، أنا على وعي بالصوت الواحد نفسه بما هو صوت يدوم، يدوم الآن، قبلاً [في حالة ما لم يكن منتظَرًا]، لم أكن على وعي به، وفيما بعد لازلت على وعي بـ "بعض الزّمان" في "الإمساك" بما هو ماض، فمن الممكن إطلاقه وإمساكه أو البقاء فيه تحت النظرة التي تثبّته[23].
لا تنفصل الصورة عن الصوت نظرا لكونه الناطق عن الداخل والمتجلّي في علاقته بالمعنى كأحد الوحدات السينمائية الأساسية المؤسسة على الحضور من حيث يمكنه أن يكرر ذاته لمأسسة الوجود الواقعي، فحضور الصوت المتكرر يقوم بشحن الوعي من حيث يسجّل حضوره في نبذ الأنموذج المؤسس كحضور واقعي، فالمنطوق الصوتي السينيمائي، من منظور الفينومينولوجيا، يسعى إلى القضاء على السلطة الأحادية للصورة في وجودها المادي تحت ضغط الحضور الواقعي إلى حضور المعنى، وعندما تحقق الصورة الصوتية حضورها كوعي على اعتبار أن الصوت يسمع ذاته داخل المشهد السينمائي ولا ينصت إلى مؤلّفه، فمعنى ذلك أن غياب العالم، أو نسيان الدال يجعل من الصوت صورة سمعية متوحدة مع الصورة نفسها، تحضر لتفرض وجودها،
فعندما يشكل الصوت سلطته عبر الرجوع إلى عقلانية اللوغوس الأولى واعتبار ماهية هذا الرجوع هو ما يربط الحضور بالحدوس التي يمثلها الشعور كحضور مبدئي غير أمبريقي، فهذا الحضور للصوت كوجود مثالي يمثل نوعا من الحضور الدائم يعتبره المعنى جسده المادي للتحقق، من هنا انطلق دير يدا لاعتبار ظاهراتية هوسرل في فهم المعنى والدلالة بربطه بمعنى الحياة كفلسفة وتجربة معيشة.
فإمكانية تحقق الدلالة أو قيام المعنى لا يمكن أن تستوعبه سوى الثنائية الترنسندنتالية صورة/صوت، لإبراز الاختلاف بين المعنى داخل الصوت الذي يتيح للسينما شرط وجودها بما هي نظام دلالي يقول ديريدا في كتابه "الغراماتولوجيا" كنّا نقول “كلام” للحدث، الحركة، الفكر، تعبير، وعي، لاوعي، تجربة، إحساسات... والآن نرمي الى القول”كتابة” من أجل هذا ومن أجل أشياء أخرى: من أجل تحديد لا فقط الحركات الجسدية وتسجيل الحروف، والأشكال أو التشكيلات، لكن أيضا مجموع ما يجعل الكتابة ممكنة.
إن النسق الصوتي يعطي للسينما قابليتها لإنتاج الدلالة من غير الإشارة إلى المحسوسات، فهي تُنَمّي حضور المعاني في الوعي عن طريق الحدس المباشر حتّى استحالة العثور على الوساطة اللغوية لفرط تجريديتها بالصورة الصوتية وهو ما يذهب إليه دريدا ليجعل السينما جملة من الصور الدلالية الأوّلية السابقة على وجوده.
لم تعرف السينما في بدايتها ظهور الصوت، لقد كانت تقوم على الصمت، إذ لم يكن العرض السينمائي مسموعا، لقد كان الناس يجدون أنفسهم في مواجهة صور بكماء، خرساء، مكتفية بعزف الموسيقى، في الوقت الذي كان على السينما أن تنتظر حتى عام 1895 أي أكثر من ثلاثين عاما قبل أن يظهر أول فيلم ناطق وهو فيلم "مغنى الجاز1927"*.
إن تجليات الصوت في السينما هي حوار الفيلم نفسه، والموسيقى إلى جانب الصمت بما هو مؤثر يشترك مع مختلف المؤثرات على غرار الأغنية الفردية والجماعية وعموما فللصوت دلالة مادية ومعنوية حسب حالة المتفرج النفسية، فقد يكون الإيقاع مستمدا نم العالم المادي وجزاء منه، وفي أحيان أخرى يختلف من حيث السرعة والبطء من حيث ملاحظة الإنسان لهذا العالم.
ليس امتياز الوعي سوى إمكانية الصوت الحي... ولقد أظهر دريدا العلاقة مابين تشكل المعنى والوعي ومابين مفهوم الصوت لأنه حينما أتكلم سيكون من خاصية الجوهر (الفينومينولوجي بهذه العملية أنني اسمع نفسي في الوقت الذي أتكلم فيه …
الصوت هو اللحمة الروحية في تواصلها عند الحديث وفي الحضور أمام ذاتها لدى إنصاتها لذاتها، في أوج غياب العالم ومعنى الإنصات للذات في خضم غياب العالم حضور الروح بما هي خاصية مثالية، إنها مركزية الصوت التي بيّنها دريدا من حيث إن للصوت امتيازا وموهبة عقليةـ تجعل منه مركز الحوار القائم في المشهد السينمائي، فالسينما هي صيرورة إرادة القول: "إن إرادة القول تتصل بإرادة استماع الذات إلى كلامها في قرب الذات من الذات حيث يبدو أن الصوت يمتلك الامتياز (...) وأنه الأساس في كل نشوء التفكيرات الميتافيزيقة من مثل الذات والعالم والوجود فحين أتكلم وأسمع ذاتي أتخيل أني مركز يصدر منه فعل الكلام والتخيل أيضا، إني وحدة منطقية متجانسة وحاضرة في الزمان تتجه بحركة كلامها من الداخل إلى الخارج. وهذا أصل كل متخيلات الايديولوجيا والفكر القطعي المتمحور حول الصوت. بكلام آخر إن الحقيقة أو فكر الحقيقة والميتافيزيقا لم تخرج إلا من حاضنة الصوت كمركز لولادة اشياء العالم ومفاهيمه ."
فلولا الصوت ما كان بإمكان السينما الإنصات إلى ذاتها، بينما السمع هو الوظيفة الأكثر مثالية من الصوت بما هو نمط تعبير هو نمط تعبير المحايثة.
كم هو عجيب أمر السينما حينما نعلم بأن المرئي فيها غير كاف لتحصيل أبلغ الرسائل، ونجدها أحوج الفنون إلى الصوت، إلى اللامرئي الذي كثيرا ما يكون أكثر بلاغة وبالأخص بالنسبة للأذن الذّواقة التي تلتقط نبرات الحوار السينمائي أو الموسيقى أو اللقطة المؤثّرة فتزيدها تأثيرا في الإحساس، ذلك أن اللامرئي وحده ما يمكنه الارتقاء بالتأثير في المتلقي من مستوى استقبال المشهد بالعين المحظة إلى مستوى التذوّق الفني الزاخر بالمؤثّرات السمعية، فالأذن وحدها أكثر ارتباط بالقلب، بالإحساس والانفعالات، أي بالذاتية المتلقية للرسالة السينمائية، وهذا يعني بأن كلّ التأثيرات الخيالية والتنويعات المخيالية لوحدها من دون صوت لن تكفي أبدا لأنها ومهما تكتسب من أهمية وقيمة فنية عاجزة على إحداث نمط ما من الأثر على المتلقّي، فالصوت يحمل نوعا من "البوح الوجداني للصورة"[24] ذلك أن الصوت وحده يمكنه أن يبلّغ الرسالة الشعرية للصورة، فقد فتحت الموسيقى أرحب الآفاق للصورة الفنية السينيمائية بحيث أنه يبدو بأن الصوت هو الذي يحرّك الصورة وليس العكس ، الأمر الذي يعني بأن هذا الكيان الخفي الذي يخالج الآذان في انحجاب يعبّر عن حياة أكثر روحانية تحمل في طياتها الفكرة و العبارة التي لم تتمكن الصورة من تبليغها، فالذكرى تحمل موسيقى ما والصدمة والصرخة...وهو ما يعني بأنّ ما نراه ونبصره غير كاف للتأثير بل هو بحاجة إلى التعميق الفني "إننا نطلب من الموسيقى أن تعمّق فنّيا إحساسا بصريا، ولا نطلب منها أن تفسّر لنا الصور بل أن تضيف إليها رنّة ذات طبيعة نوعية مغايرة"[25]، أي أن الصوت وحضوره، ومركزيته أسبق وأكثر حضورا من الصورة وحيثياتها، فاللاّمرئي والحالة هذا أبلغ من المرئي، فالصورة تحتاج إلى إيقاع لا يمكنها هي نفسها أن تحصل عليه ولهذا فالصوت هو الذي يؤمّن لها ذلك.
فالزمان الموسيقي والزمان المعيش يعلنان توحّدهما في آن اللقطة السينمائية بحيث يتمّ التعبير عن أكثر من شيء وأكثر من فكرة، يتم التعبير آنئذ عن العالم كلّه الذي يمكن حصره في آن التوحّد هذا الذي بالنظر إلى زمان الوعي هو عملية والمحايثة الفعلية والحقيقية، فاللحظة الديناميكية هذه هي ما يدرَك في نقطة مفصلية لبعدين زمانيين هما الماضي والمستقبل، والأمر هاهنا لا يتعّلق سوى بجوهرين حسيين يتحدّد من خلالهما الزمان الصوتي نفسه، الذي يؤمّن رباطا مع بناء نظام أعلى تضمن ضرورته الداخلية الوجود الجمالي. ففي الموسيقى، في الصوت وحده يمكن للإنسان أن يحقق الحاضر[26]، ومن العبث أن ننتظر منه أن يقدّم لنا شيئا آخر غير يرويه لنا في تلك اللحظة بما أنه هو ما يولّد فينا انفعالات من نوع خاص جدا لا يمكن تعويضا بأخرى وفي لحظة أخرى فـ"الموسيقى (...) تخلق، تبدع زمانا آخر، ليس هو حاملها، وإنما جوهرها نفسه، تجعل منه الرّنة حسيا"[27].
إذا كانت الصورة تجلب الأبصار بألوانها وتدرجاتها فإن الصوت يسحر الأذن بلطفه الذي يحاكي الرّوح ذلك أن السينما لاتدرك مبلغها إلا في حال تحقق المدخل الموسيقي للقطة الفيلمية مثلا، التي تعمل على تحريك المشاعر سراء كانت قلقا أم مللا أم حبا وعذابا، وذلك من دون إهمال القيمة الفنية والفينومينولوجية للصمت، فالصمت هو المحايثة نفسها، واللقطة التي تتطلب الصمت هي أكثر اللقطات توحيدا للذات مع المشهد السينمائي، بحيث يتمّ مباشر حدس المعطى الفني لها من طرف الذات المدركة وعادة ما يحيل إلى "الموت والغياب والخطر والصدمة والقلق والعزلة"[28].
إن في ذلك دليلا على اكتمال الحواس الإنسانية وأدوارها في التعاضد مع بعضها البعض، وليس بيانا لعجز أحدها دون الآخر، هو ما تفطّنت له كلّ من الفينومينولوجيا والسينما، إنها روعة التكامل ما بين ما هو مرئي ولامرئي، الجلي والخفي، ومن ثمّة يمكن القول بأن اجتماع الرؤية الفينومينولوجية بالعمل السينمائي ليس من باب الصدفة وإنما هي من باب التكامل الوظيفي فنيا ومعرفيا.
------------------------------------------
قائمة المراجع العربية والفرنسية:
- دريدا (ج)، أطياف ماركس، ترجمة منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1995.
- دولوز (ج): ما الفلسفة، مركز الإنماء القومي، لبنان.
- عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة السمع، دار توبقال للنشر.، المغرب.
- عقيل مهدي يوسف، جاذبية الصورة السينمائية (دراسة في جماليات السينما)، ط1، دار الكتاب الجديد، ليبيا، 2001.
- هوسرل (إ): فكرة الفينومينولوجيا، ترجمة: فتحي إنـﭭزو، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007.
- Bizin (A), Ontologie de l’œuvre cinématographique, édition cerf, 1985.
- Boucourechlievm Dire la musique, Minerve, 1995.
- Dastur (F) : Husserl, Dès mathématiques à l’histoire, 2eme édition, Coll :Philosophie, P.U.F, Paris, 1999.
- Delleuze (G), Pourparlers, Minuit, Paris, 1972-1990.
- Depraz (N) : La conscience (Approches croisées, des classiques aux sciences cognitives) , éd : Armand Colin, Paris, 2001.
- Derrida (J) : Le problème de la genèse dans la philosophe de Husserl, 1ère édition, Coll : Epiméthée, P.U.F, Pris, 1990.
- Foulquier (P) : Dictionnaire de la langue philosophique, 6ème,P.U.F, Paris, 1992.
- Heidegger (M) : Être et temps (section I), traduit par : François Vezin, Coll : Bibliothèque de la philosophie, Gallimard, Paris, 1986.
- Husserl (E) : L’idée de la phénoménologie, traduit de l’allemand par : Alexandre Lowit, 5ème édition, P.U.F, Paris, 1993.
- Husserl (E) : Recherches logiques V,T2, Recherche pour la théorie de la connaissance, traduit de l’allemand par : Hubert ELIE, Arion KELKEL et René SCHERER, 4eme édition, Coll Epiméthée, P.U.F, Paris, 2005.
- E, Leçons pour une phénoménologie de la conscience intime du temps, Traduit de l’allemand par : Henri Dussort, Préface de Gérard Granel, P.U.F. Paris, 1964.
- La philosophie de A à Z, sous la direction de : Laurence Hansen-Love, édition Hatier, Paris, 2007.
- Raymond Court, Temps et musique, in : phénoménologie et esthétique, encre marine, Paris, 1998.
[1] فيليب مانغ، جيل دولوز أو نسق المتعدد، ترجمة: عبد العزيز بن عرفة، ط1، مركز الإنماء الحضاري، سوريا، 2002، ص 126.
[2] أنظر نفسه، ص 126.
[3] نفسه، ص 128.
[4] Foulquier (P) : Dictionnaire de la langue philosophique, 6ème,P.U.F, Paris, 1992, P535. et : La philosophie de A à Z, sous la direction de : Laurence Hansen-Love, édition Hatier, Paris, 2007, P 342.
[5] Husserl (E) : L’idée de la phénoménologie, traduit de l’allemand par : Alexandre Lowit, 5ème édition, P.U.F, Paris, 1993, P 116.
[6] Heidegger (M) : Être et temps (section I), traduit par : François Vezin, Coll : Bibliothèque de la philosophie, Gallimard, Paris, 1986, § 7, a, PP 54, 55.
[7] Ibid. § 7, b, PP 58- 59.
* يقصد من معنى الصورة في اللغة العربية هيئة الشيء و صفته. كما تعني التوهم لقولنا تصورت الشيء أي توهمت الشيء فتصور لي. أما داخل الثقافة الغربية فالصورة أتت من كلمة (ايماج) المنحدرة من (أيماغو) اليونانية. و ترتبط بكلمة ( ايكون) التي تعني التشابه و المحاكاة، التمثيل والتمثل.
[8] La philosophie de A à Z, sous la direction de : Laurence Hansen-Love, édition Hatier, Paris, 2007, image, P 213.
[9] Voir : Depraz (N) : La conscience (Approches croisées, des classiques aux sciences cognitives) , éd : Armand Colin, Paris, 2001, P 73.
[10] أنظر هوسرل (إ): فكرة الفينومينولوجيا، ترجمة: فتحي إنـﭭزو، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007.
[11] عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة السمع، دار توبقال للنشر، المغرب، ص7-8.
[12] Voir : Dastur (F) : Husserl, Dès mathématiques à l’histoire, 2eme édition, Coll :Philosophie, P.U.F, Paris, 1999, P 26.
[13] Husserl (E) : Recherches logiques V,T2, Recherche pour la théorie de la connaissance, traduit de l’allemand par : Hubert ELIE, Arion KELKEL et René SCHERER, 4eme édition, Coll Epiméthée, P.U.F, Paris, 2005, chap VI, § 45. P 323.
[14] أنظر: عقيل مهدي يوسف، جاذبية الصورة السينمائية (دراسة في جماليات السينما)، ط1، دار الكتاب الجديد، ليبيا، 2001، ص ص 33، 34.
[15] Delleuze (G), Pourparlers, Minuit, Paris, 1972-1990, PP 67-82.
[16] أنظر دولوز (ج)، ما الفلسفة، مركز الإنماء القومي، لبنان.
[17] Voir : Bizin (A), Ontologie de l’œuvre cinématographique, édition cerf, 1985.
[18] أنظر: دريدا (ج)، أطياف ماركس، ترجمة منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1995، ص ص 28،29.
[19] أنظر: نفسه، ص ص 28،29.
[20] Husserl.E, Leçons pour une phénoménologie de la conscience intime du temps, Traduit de l’allemand par : Henri Dussort, Préface de Gérard Granel, P.U.F. Paris, 1964, § 1, P 3.
[21] Derrida (J) : Le problème de la genèse dans la philosophe de Husserl, 1ère édition, Coll : Epiméthée, P.U.F, Pris, 1990. P 110.
* يمكن اعتبار ظهور الصوت فى السينما قفزه كبرى للصناعة لتتقدم على طريق التطور وكانت معدات تسجيل الصوت تستلزم عربة ضخمة مجهزة للتسجيل فى المشاهد الخارجية ومن هنا كان اختراع الشرائط المغناطيسية لتسجيل الصوت وهى نقلة تكنيكية مهمة جدا فى تخفيف ثقل معدات الصوت وتحويلها الى معدات مرنة وتلك هى الخطوة الأولى في مسار تطور الصوت فى السينما الخطوة الثانية كانت الميكساج (وهو عبارة عن استبدال الصوت المسجل مباشرة في موقع التصوير بصوت اخر ذى نوعية وكفاءة أعلى وإضافة الموسيقى ويوجد الآن احدث الابتكارات الصوتية في عالم السينما من تسجيل متطابق مع حركة الشفاه بعد التصوير داخل الاستوديو وإضافة ضوضاء في الخلفية وموسيقى ومؤثرات صوتية) بالإضافة للتقدم الشديد في عمليات تسجيل الصوت المباشر بعد اختراع أجهزة تسجيل الصوت الحديثة خفيفة الوزن والكاميرات التي لا تصدر أصواتا أثناء عملها في نهاية الخمسينيات.
** هذه واحدة من الصّعوبات التي يتحدّث عنها جاك دريدا في عمله المخصّص حول هوسرل "مشكل التّكوين في فلسفة هوسرل" كما يتحدث عنها بول ريكور في عمله "الذّات عينها كآخر".
[22] Husserl.E, Leçons pour une phénoménologie de la conscience intime du temps, Ibid. § 1, P4.
[23] Ibid. § 8, P 38.
* وذلك رغم ان اختراع تسجيل الصوت المصاحب للفيلم تم اختراعه وحل جميع مشاكله التكنيكيه منذ عامى 1911 و1912 ولكنه لم يستغل تجاريا الا عام 1927 ذلك لان تاريخ ظهور السينما هو تاريخ الصراع التجارى بين مستغليها فالأخوان لوميير بدا سريعا الاستغلال التجارى لاختراعهما المعروف باسم السينماتوغراف، قبل توماس ايدسون مخترع الكينوتوسكوب.
[24] عقيل مهدي يوسف، جاذبية الصورة السينمائية، نفسه، ص 121.
[25] نفسه، ص122.
[26] Raymond Court, Temps et musique, in : phénoménologie et esthétique, encre marine, 1998, Paris, PP217-218.
[27] Boucourechlievm Dire la musique, Minerve, Paris, 1995, P 199.
[28] عقيل، نفسه، ص 123.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 22 أكتوير 2020