منظومة الارث الثقافي العربي والإسلامي بين نقد الجابري ومقاربات أركون

 

 

 

المؤلف: أ.د.دراس شهرزاد

المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة وهران2

للإتصال بالمؤلف: عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث:الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2

 

 

 

 

 

 ***الجزء الأول***

 

 

تقديم :

الذات العربية، بحاجة لإيديولوجية تبني وترسم وتنتقد، بحاجة لفلسفة لا بل لفسفات، ولفلاسفة هي بحاجة أيضا، لا بل ولفلاسفة يعطون أهمية لا تقل عن الأمل الذي نتوخاه من التقنين والصناعة مع ما يلزمها وتفرضه من أجواء عقلانية بناءة تجعل من قيم الإنسان قيمة أولى يكون المجتمع فيها منسقا بعقلانية وسياسة هي فن وعلم هو أسمى العلوم وقريب الفلسفة والفلاسفة المنتمين([1]).

إن دول العالم الثالث بما فيه العالم العربي ومجموعة الدول الإسلامية، قد وجدت نفسها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحرر معظم دول من الاستعمار الغربي البرجوازي، وخضوعه لتبدلات أساسية في جميع المستويات: سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، والتي نتجت عنها عدة مشاكل خطيرة أهمها: مشكلة التخلف، مشكلة المزاحمات السياسية بين دول شقيقة، مشكلة التبعية بأنواعها للعالم المتقدم، بالإضافة إلى أن قادة هذه الدول السياسيين أي المسؤولين لم يستطيعوا إدراك أبعاد مسؤولياتهم اتجاه الشعب، واتجاه مستقبل وطنهم، هذا الذي زاد من حدة التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الأوطان العربية خاصة، ومن هذا كله أصبحت تعيش كسادا سياسيا وإيديولوجيا.

إن هذه النواتج هي التي ولدت الحاجة إلى التغيير، ودفعت بالمفكرين العرب إلى إبداع أفكار ومواقف اتجاه كل الأوضاع، أو التي ببعضهم إلى تبني أفكار غربية، باعتبارها الدافع والقوة التي تغير الأوضع العربية نحو الأفضل، وكمواقف تحرر الواقع العربي من كل الأفكار والنظريات تحجب الحقيقة الموضوعية عنه.

إذا كان لابد من أن يشتغل المفكرون العرب والمسلمون، للبحث عن الشروط والظروف التي ترفع من الأمة العربية والإسلامية إلى مستوى الأمم المتحضرة، لابد من طرح لأفكار فلسفية هادفة وبناءة، لأجل التغيير، أي تغيير الفرد، المجتمع، الفكر، ومنه رسم مستقبل الإنسان ببناء مجتمع جديد.

في الحقيقة، إن الحديث عن هذه النقطة تجرنا إلى طرح التساؤل التالي: هل تمكن العقل العربي والمسلم، الفكر العربي والمسلم من وضع مشروع فلسفي هادف لإعادة بناء الفرد والمجتمع؟

 تشهد حركة الفكر في العالم العربي منذ أواسط الستينات تقدما ملحوظا في جميع المجالات الفكرية، وخاصة في الدراسات التاريخية والفلسفية فمثلا: كالدراسة النقدية والتحليلية للفكر العربي الحديث التي قام الدكتور: "عبد الله العروي" في كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة" (1967) أو كالقراءات التي قام به الأستاذ: "محمد عابد الجابري" للترات الفلسفي الإسلامي وغير الإسلامي مثلا :"تكوين العقل العربي"، "بنية العقل العربي"، "نقد العقل السياسي"، هذه المؤلفات التي تمثل جزءا هاما من مشروعه الفلسفي "لنقد العقل العربي"، أو كالدراسات الأركيولوجية التي قام بها الأستاذ "محمد أركون" للتراث الإسلامي كمؤلفه: "الفكر الإسلامي- قراءة علمية" (1987)- أو مؤلفه الذي سبق هذا  "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" (1986)- كما لا ننسى الدكتور: "زكي نجيب محمود" ودراساته للفكر العربي والأوضاع العربية بأسلوب وضعي منطقي، مثل ما نجده في مؤلفه "في حياتنا العقلية"(1918)، إلى الدراسات العلمانية التي قدمها الأستاذ "ناصيف نصار" للمحاور الأساسية في التفكير الإنساني: كالفلسفة، الإيديولوجيا، التاريخ، والتي نجدها مثلا في كتابه "الفلسفة في معركة الإيديولوجيا"(1980)، وهناك أسماء أخرى لم نذكرها، وكان لها دورا في التحليل والنقد للفكر أو التراث، ومنها الدراسات الإسلامية التي انتهجت منهجا مخالفا: كالمنهج الإسلامي الذي نستنبطه من قراءتنا لكتابات الأستاذ: مالك بن نبي".

هذه بعض الدراسات والأبحاث التي قدمها الفكر العربي خلال هذا القرن، وباختلاف الموضوع نشهد اختلاف في المناهج وفي القراءات والاستنتاجات.

التوسيع:

 حاول البعض من المفكرين وضع فلسفة للفرد العربي وللمجتمع العربي، ورفع من مستوى العقل إلى الأعلى حتى يستطيع إدراك الإنسان العربي تخلفه وتبعيته، ويستنتج أسباب ذلك، معتبر أن المجتمع التقليدي هو السبب، فلابد من البحث عن فلسفة، وإيديولوجية عربيتين جديدتين ومعاصرتين، لأن مهمة الفلسفة اليوم عند المفكرين العرب هي عملية تشخيص للواقع المعاش ومحاولة معالجته وبيان خصائصه، ومميزاته حتى يتمكن الجميع من إصلاحه أو تغييره، لأن الأمة العربية لم تعرف بعد طريقها الخاص نحو الحياة سواءا سياسيا، اقتصاديا، علميا، تكنولوجيا، اجتماعيا... لذا فإن الملاحظ على فكرنا المعاصر أنه لا يزال يعيش حالات متناقضة، إما ينغلق على ذاته ويحاول التمسك بالتراث الأصيل، وإنما يحاول الاتباع لكل ما هو معاصر من هذا وذاك؛ الفكر العربي المعاصر يعيش أزمة كبيرة لأنه لم يستطع الوصول إلى الإبداع، الذي هو البديل الوحيد الذي يجمع بين التراث الأصيل والواقع الحاضر والعالمي المعاصر.

فالفكر الذي يتعامل مع التراث فقط يبقى بدون إرادة أو قوة التحدي للأوضاع الراهنة، وعليه يتصف بأنه فكر جامد أو عقيم، لم ينتج فكرا جديدا يغير المجتمع العربي، ولم يحول نظمه وأوضاعه، وهذا يرجع إلى عدم قدرة هذا العقل على إدراك القوانين الحالية في المجتمع أو في الفرد، والتي تسيرهما، كما لا يستطيع تجنب المعوقات التي تعترضه في الحياة الذاتية الروحية في الإنسان ذاته أو في الحياة الموضوعية المادية في المجتمع بجميع أحواله ومركباته، فتعامل بعض المفكرين مع التراث هو تعامل ذو بعد إيديولوجي وسياسي، خاصة لأن النظرة إليه تتصف بالنظرة السلفية التي تحاول الرجوع إلى الماضي أو إحضار الماضي في الحاضر وفي هذا الصدد يقول الأستاذ: محمد عابد الجابري: "القراءة السلفية للتراث، قراءة لا تاريخية، وبالتالي فهي لا يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث هو :الفهم التراثي للتراث يحتويها، وهي لا تستطيع أن تحتويه لأنها: التراث يكرر نفسه"([2]).

القراءة السلفية هي القراءة التي تحاول أن تقرأ الواقع والمستقبل عن طريق الماضي (التراث) وينتج عنها تجسد الذات العربية الراهنة في التراث إن مثل هذه القراءة تحاول بناء أو تأسيس وعيا إيديولوجيا للحاضر والمستقبل على أساس الماضي، أي بربط الفكر التاريخي (واقع التراث)، وإحياءه بالواقع الحاضر (الراهن)، والغرض من هذه الدراسة هو محاولة استنباط الأفكار والمواقف وفهم التاريخ الماضي لغاية بناء الحاضر والمستقبل وتغييره، وإرجاع الواقع إلى الأصول الأولى، لأن الواقع التراثي والفكر التاريخي هو الحل الوحيد للمجتمعات العربية والإسلامية، والمنقذة لها من أي انحلال أو تبعية أو تخلف.

إن مثل هذه القراءة للتراث الماضي وللواقع التاريخي ضرورية، لأنه يمكن الانسلاخ كليا منه، وهو ضروري لأنه مقومة أساسية لأمتنا العربية والإسلامية، وشرطا قويا لاستمرارها في الوجود، ولإثبات كيانها مثل الأمم الأخرى. لأننا لا يمكن أن ننكر دور السلف في بناء حضارة عتيدة وقوية ومبدعة في جميع مجالات الحياة والفكر، لأن السلف "أقام حضارة ضخمة عتيدة لم يكن لها منازع أو شريك طوال العصور الوسطى كلها. حضارة استطاعت أن تغزو جميع العقول والأذهان وتكون مصدر خير بركة لكل من آمن بها أو تفيأ بضلالها ثم انتقل إشعاع هذه الحضارة إلى أوروبا الحديثة ، فكانت عنصرا هاما من عناصر نهضتها ومستقى لكثير من جوانب حياتها"([3]) إن هذه الإسهامات العلمية والحضارية التي تميز بها تراثنا العربي والإسلامي، والتي فرضت نفسها على تطور الفكر الإنساني كله، والحضارة العالمية بأسرها وصارت عاملا أساسيا فيها، لا يمكن أن تهمل اليوم من قبل المفكرين العربي والمسلمين، لأن الغرب لم يهملها، بل بنى عليها حضارته التي تحن اليوم عنها متخلفين.

فالواجب عندما نتعامل مع التراث هو أن نعرف كيف نتفاعل معه، ونختار المنهجية المناسبة التي تحقق لنا ما نرغب منه.

إن العلاقة بين الفكر التراثي، والواقع الحاضر هي علاقة تكاملية، بحيث لا يمكن أن نهمل أحدهما، لأنه لا نستطيع الاستغناء عن الماضي ونهتم بالحاضر، أو العكس، ولأن لكليهما تأثير في الآخر وكل واحد يؤكد الثاني، ولدى يجب أن تتصف الدراسة للتراث والحاضر بمنهجية تحليلية نقدية، لغرض اكتشاف الأفكار والمواقف الحضارية والعلمية والفلسفية التي تساهم في بناء الحاضر والمستقبل.  

فدور المفكر هو الإبداع لأن دراسة التراث ليس معناه التقليد وإنما يتطلب الاجتهاد فيه.

فالذات العربية الراهنة تحتاج إليه في البناء وفرض وجودها بين الأمم الأخرى، وهذا الاجتهاد لا يجب أن يتصف بالنظرة التأملية المجرد، وإنما يجب أن يكون تفكيرا عمليا يساهم في التغيير والانفتاح على العالم، وليس التراجع إلى الخلف والتمسك بفلسفات وفيم، وإيديولوجيات قديمة، كانت تتماشى مع واقع مضى، وعليه يجب على المفكر الذي هو نتيجة للحاضر بثقافته وإيديولوجيته، ووضعه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أن يصنع فلسفة وعلما من التحليل والفحص والنقد للواقع التراثي، تساهم في تحويل المجتمع، وتغيير حاضره، وتبني مستقبله كمحاولات التفسير الجديدة للتراث التي قدمها الأستاذ "محمد عمارة"، ووضعه لتصورات جديدة حول قضايا الحاضر والمستقبل كقضية "الهوية الحضرية " أو قضية " الموروث والوافد"، والتي قال فيها: "ليس كل موروث بأصيل... وليس كل وافد بنافع... ولا كل وافد بضار... كذلك فليس كل موروث، وإن كان أصيلا بضروري لعصرنا، حتى ولو كان نافعا وضروريا لعصر قديم... فالمعيار والمحك هما: مصلحة مجموع الأمة... التي تتطلب الحفاظ على تمايزها الحضاري، وتحقيق استقلالها السياسي والاقتصادي، وتنمية مصادر ثروتها لتحقيق الرخاء لجمهورها العريض، وتحرير عقلها من التخلف الموروث ومن الوفد الغربي الذي يسعى لمسخ هويتها القومية، ونسخ ذاتيتها الحضرية، وتحويلها إلى هامش للحضارة الغربية الغازية... وذلك هو معيار الموقف من الوافد ومن الموروث"([4]).  

إذ مثل هذه الدراسة للتراث وعلاقته بالواقع الحاضر ليست قراءة سلفية رجعية، وإنما هي دراسة جديدة للتراث بمنظور الواقع، دراسة تعتمد على التحليل والنقد والتمييز بين ما هو نافع وضار في كل من التراث والوافد، كما تدعو هذه الدراسة وضع ملامح المشروع الحضاري الذي يتحدد طريقه للأمة العربية والإسلامية في التميز الحضاري  "إننا نؤمن بتمييزنا الحضاري، والتميز الحضاري غير الإنغلاق ...وغير العداء الحضاري...بل وغير الإكتفاء بالذات الحضارية... والانكفاء على هذه الذات"([5])،إن استقلال أمتنا حضاريا لا يتحقق إلا إذا استطاع أفرادها بلورت  ملامح المشروع الحضاري العربي والإسلامي وهذا  المشروع هو الذي يحمي الامة من التفكك، والتشويه المعرفي والحضاري، ومن التغريب والتبعية والتخلف، ومن الأسس الرئيسية  التي يؤكد عليها "محمد عمارة" في مشروعه الحضاري يقول فيها :"ندعو إلى التأمل في التوحيد باعتباره فلسفة الأمة، وروح حضارتها...، و " ندعو إلى تأمل الوسيطية بالمعنى الإسلامي، فهي ميزان أو معيار التوازن، وهي  ملمح شخصيتنا الحضارية".

 إن هذه الملامح في المشروع الحضاري التي يدعو إليها  الدكتور محمد عمارة تتميز بمميزات أو خصائص تختلف عن ملامح الحضارة الغربية، لأن نظرة التراث إلى الإنسان تختلف عن الموقف الديني والفلسفي العربي الإسلامي كأنه خليفة الله في الأرض، على أنه السيد المطلق في الكون أو ابن الخطيئة المنبوذ في الفكر الغربي، ويهتم المشروع الحضاري بالإنسان لأنه هو المحرك للواقع والفاعل والمحقق  للمشروع وإذا تم واكتمل وعيه به.

‏إن عملية التغيير الواعية في المشروع الحضاري هدفها هو بعث الحضارة من جديد بوجهها الحقيقي الغير الزائف، ويتم هذا العمل التغييري بفسح المجال للمحاولة والمبادرة وتجاوز وضعية الإحتكار الغربي أو التغريب الذي يمارسه دهاقته الغرب ومفكروه إتحاه الأمة العربية والإسلامية منذ أمد بعيد والتخلص كذلك من مركب الإخلاص والوفاء للتجارب الماضية الموروثة،والعمل دون عقدة نقص لتطبيق البناء أو إنجاز العمل التغييري الحضاري .

‏إن الذات العربية والإسلامية تعيش فراغا فلسفيا وإيديولجيا، وهذا نوع من القراءات للتراث قد يزودها بمفاهيم وإتحاهات ومعارف، تفيدها في تكوين قوة سياسية وإيديولوجية وثقافية حتى تقضي بها  على عدم النضج السياسي والإيديولوجي والثقافي، وتواجه المشكلات الخطيرة أهمها التخلف وسيطرة الغرب عليها، وبذلك الإستقلال  الحضاري الذي هو طريق نجاة أمتنا العربية والإسلامية.

تحدد القراءة السلفية اللارحعية الجديدة إلى التراث أن الطريق الأوحد والأمثل لتحقيق التغيير والتعديل في المجتمعات العربية والإسلامية هو الإسلام، والإلتزام  العملي الشامل.

‏إن عملية التغيير في الإسلام ترتبط بالإنسان بإعتباره حامل الدعوة  وواع، وهو المحرك للواقع  والتاريخ ونجاح هذه العملية التغييرية لا يتم إلا إذا حصل التغيير ذاته في الإنسان، وفي النفس والعقل، والأفكار، جسم، يحصل حشد التغيير في الافراد والجماعات والمجتمعات، والعلاقات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية والثقافية أي في جميع الأحوال والظواهر الإنسانية، وبمعنى آخر التغيير كعملية يصعد من الفرد إلى المجتمع،وليس كما ترى الماركسية أنه ينزل من المجتمع إلى الفرد، كما هو واضح في قوله تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، أو كما ورد عن رسول الله الكريم- صلى الله عليه وسلم- "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" إن المنهج الأساسي الإسلامي يدعو الإنسان إلى استكشاف نفسه، وإثر هذا يحدث لذات الإنسان كفرد، ثم يعم التغيير المجتمع؛ وبذلك يتميز المشروع الحضاري الإسلامي بالصورة الشاملة لأنه يجمع بين الفرد والجماعة وبين وجود العالم وجودا ماديا، وبين الوعي الذي يبث الحياة فيه، وإن الالتزام بخطوط المشروع الأساسية هو شرط لصياغة إيديولوجية أصيلة إسلامية، تكون كخطاب فلسفي وعلمي، وسياسي واجتماعي واع يصل إلى الإنسانية قاطبة.

ولذا نستطيع أن نستنتج مما تقدم أنه يوجد طريقتين أو آليتين للقراءة التراثية، أي دراسة الواقع الماضي وآثاره ونواتجه، حيث يمكن أن نميز بين: القراءة السلفية الرجعية المغلقة التي لا تعترف إلا بالتراث والذي أساسه هو الدين الإسلامي وممثلها هو الجماعات الدينية الإسلامية التي ترفض أن يكون الشعب مصدر السلطات، وتعترف فقط بالحكم الديني، وأن الحاكمية لله، هذه الجماعة تمثل النظرية الدينية (الثيوقراطية)، وسندها هو القرآن الكريم، كما تنفي أية محاولة في الاعتماد أو الاقتباس أو الاقتداء بالغرب، أي لا يمكن الجمع بين الإسلام والحداثة في نظرهم، وأن كل حداثة فهي بدعة؛ إن هذه القراءة تحاول إخضاع الواقع للماضي،بعكس النظريات الأخرى، كالتي تحاول الربط بين الإسلام والحداثة.

وبالتالي إخضاع الواقع للماضي والحاضر، هي محاولات لا إسلامية، هي محاولات تمييع تجزئة الإسلام، وهي خطرة على الأمة الإسلامية لأن غرضها هو تحريف الإسلام، إن هذه الجماعات تحارب وحاربت الاتجاهات التي حاولت الدمج بين الماركسية والإسلام، الاشتراكية والإسلام والتي تقول بحكم، مسلم ماركسي، أو ماركسي مسلم، الإسلام اليساري، الإسلام الإشتراكي، الاشتراكية الإسلامية، أو كفول اشتراكية الرسول صلى الله عليه وسلم..إلخ، أو كالتالي حاولت التركيب بين الرأسمالية والإسلام كقول : رسملة الإسلام، الإسلام الليبرالي، الليبرالية الإسلامية... إلخ من الأحكام.

إن الإسلام منهج متميز لذاته سبق المناهج الأخرى زمانيا، ولا يوصف إلا بأنه الإسلام، هذه الحقيقة التي يجب أن يدركها كل من يدعو إلى الاشتراكية أو الليبرالية أو الديمقراطية، والملاحظة التي يمكن توجيهها إلى هؤلاء بالذات هي لما لا يحاولون الدعوة إلى الإسلام نفسه؟  

ليس معنى كلامنا هذا أن يجمد الإسلام وأن نقول لواجب اتباع السلف لأنه لام يترك للخلف شيئا؛ لا بل يجب على الإنسان العربي والمسلم أن يتعرف على تراث السلف، ويتمعن فيه ويتمسك بالثوابت ويحاول على جانب آخر أن يساير ركب الحضارة من تطور علمي وتكنولوجي، وانقلاب صناعي ولذا يجب على هذه الجماعات أن تنظر إلى القضية نظرة شمولية متوازنة حتى يستطيع التمييز بين النصوص وتتضح لها الرؤية. الإسلام كمنهج ومنطلق أصيل له أبعاد مختلفة: بعد إيماني، وبعد اجتماعي، وآخر سياسي، وتشريعي وبعد حضاري، الإسلام شمولي، وعقيدة متكاملة وقانون ينظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

إن الاعتقاد بشمولية الإسلام، أمر سهل التحصيل نظريا، لأنه مجرد بتصورات الإنسان المسلم لدينه، لكنه عند محاولة تحويل الإسلام إلى عمل، أي استيعاب ذلك عمليا في الواقع، فإنه يتطلب جهد ووقت طويل؛ ومن العوامل التي أعاقت تحقيق هذه الصحوة في الواقع العربي المسلم نجد التخلف العقيدي، العلمي الحضاري، الاقتصادي، والفكري والحربي، والغزو الفكري (التغريب) الذي يمارسه الغرب ضد الأمة الإسلامية العربية، جل هذه العوامل والأسباب هي التي تعرقل أي محاولة للانتقال من التدهور الحضاري إلى النهضة الحضارية.

إن المشروع الحضاري الذي يحفظ للأمة العربية الإسلامية شخصيتها، ويثبت وجودها كقوة بشرية، اجتماعية، سياسية، اقتصادية، وثقافية، هو المشروع الذي نحسن فيه قراءة ماضينا، ونحسن الاستفادة من التجارب الغربية الأوروبية، وهذه هي القراءة الثانية للتراث أي قراءة سلفية لا رجعية متفتحة، قراءة تحاول التوفيق بين الأصالة والمعاصرة.

نتبع هذه القراءة منهجا تحليليا ومقارنا وواقعيا، والأهم من هذه الخطوات آ ‏ن يكون ‏ نقديا بناءا أي هي دراسة منطقية لتحليل التراث تحليلا نقديا وتقارنه بالواقع الحاضر أيضا ومنه يحاول  استكشاف التجارب العربية الإسلامية الناجعة، وكيفية  الاستفادة  منها في الواقع الحاضر كما لا تهمل هذه الدراسة تجربة الحداثة الراهنة الأوروبية من خلال الحقبة الزمنية ابتداءا من القرن السادس عشرة حتى يومنا الحالي .

‏الأهم في هذه القراءة هي آن نحتاط جيدا من استخدامنا لمفهوم الحداثة كمقارنة مع الإسلام، لا يجب أن نفهم من الحداثة بأننا فكر مستورد أو غزو فكري، آو أنها موقف علماني آو لائكي، حتى نتجاوز هذا الفهم يجب أن نرجع بتجربة الحداثة في التاريخ، ونتعرف على  منشئها وتطوراتها ومراحلها حتى إلى ما وصلت إليه اليوم .

‏إن الغرب لم  يبدأ في تأسيس نفسه وتغيير حركة تاريخه من الصفر أو العدم بل اعتمد في بناءه لذاته ‏على التجربة العربية والإسلامية المتطورة في عصرها الذهبي؛ وبذلك قرأ المفكرون الغربيون كل ما تضمنته تجربتنا من علوم، وفن، فلسفة، تقنيات، وعليه، بنوا نقدهم لواقعهم المظلم، وتحقق ما يسمى اليوم بعصر التنوير؛ كذلك يجب التعامل مع تجارب الغرب في جميع الميادين والمستويات والمظاهر

الثقافية،وفي هذا الصدد  يقول الدكتور : محمد آركون :  اليوم نحن بحاجة لظهور عالم مسلم جديد متمكن العقلامية الحديثة، ولكن كيف السبيل إلى تحقيق إمكانية فهم العقلانية الحديثة؟ آي كيف يمكن انجاز المشروع الحضاري التاريخي والفكري؟ أبنقد العقل العربي كما شاع عند  الدكتور الجابري؟، آم بنقد العقل الاسلامي كما ورد عند الدكتور أركون؟، هل بتبني الأفكار والمناهج الغريية وإسقاطها على التراث والعقل العربي والإسلامي؟

‏يمثل موضوع الإسلام مشروعا حضاريا خطيرا، ليس من حيث النظرة آو النظرية، بل من حيث التطبيق العملي له، وهذه الخطورة تحددت من خلال جوانب مختلفة تعيشها الأمة العربية والإسلامية سواءا أكان على مستوى الداخلي: كالنزاعات الفكرية، والقومية، آو الصراعات الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية؟ آو على المستوى الخارجي: كالتخلف  والتبعية في بجميع المجالات.

أما الحداثة فهي مجموع التشكيلات الفكرية والسلوكية التي تمثل ملامح المجتمع الحديث العصري والمتميز بالتقنية والعلم والعقلانية في إطار ما يسمى بالنهضة الغربية أو الأوربية وبهذه الحداثة استطاع المجتمع الغربي السيطرة والغزو للمجتمعات المتأخرة التي تشعر اليوم بصدمة الحداثة، فالمقصود بالحداثة تاريخيا هي مجموع التحولات التقنية والتنظيمية والفكرية التي حدثت في أوروبا، ابتداءا من القرن التاسع عشرة، أما الحداثة بالمعنى الفلسفي فيه مجموع المعايير والأنماط المستنبطة من هذه التحولات والتي يمكن اتخاذها مقاييس واعتبارات لهذه التحولات.

فالحداثة بهذا المعنى من هذا المنظور الجديد للمجتمع والتاريخ والطبيعة والكون، وهو منظور الذي كرسته الحضارة الحديثة ونشرته بقدر متفاوت في هذا القطاع أو ذاك من القطاعات في المجتمع الأوروبي الحديث وهذه التحولات النوعية التي حققتها المجتمعات الأوروبية تدريجيا جعلتها تتباين كليا، عما يسمى اليوم بمجتمعات العالم الثالث.   

 -----------------------------------------------

[1] - الباحث: ذاك القطاع الفلسفي على الذات العربية- الدكتور: علي زيعور- العدد الرابع- يناير- فبراير1979- الشركة الشرقية العلمية للصحافة والنشر- باريس- ص 147.

[2] -  نحن والتراث –محمد عابد الجابري- المركز الثقافي العربي- دار البيضاء- الطبعة الأولى: يناير 1980، ص 18.

[3] -  أصالة الفكر العربي- الدكتور: محمد عبد الرحمن مرحبا- ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر- الطبعة الثانية- 1983-ص 261.

[4] -  المستقبل العربي، حول الموروث والوافد، د. محمد عمارة، تصدرها مركز الدراسات الوحدة العربية، العدد 64، السنة 1984، ص 1975.

[5] -  نفس المرجع ص180

 

الجزء الثاني : محمد عابد الجابري

الجزء الثالث : محمد أركون

 

 

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة