
الجزء 2: منظومة الارث الثقافي العربي والإسلامي بين نقد الجابري ومقاربات أركون
المؤلف: أ.د.دراس شهرزاد
المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة وهران2
للإتصال بالمؤلف: عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث:الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2
*** الجزء الثاني:محمد عابد الجابري ***
إن الدعوة إلى تحديث العقل العربي، لا يتم إلا إذا قام الإنسان العربي، والمجتمع العربي بممارسة النقد الإيديولوجي الفعلي للواقع وللمعرفة: فدعى الجابري إلى تحديث العقل العربي بممارسة قراءة نقدية ابستيمولوجية لبديهيات العقل العربي، أي تحليل مكونات العقل العربي، والبحث في أصوله، وكيفية بناءه، إن مثل هذه القراءة المعرفية هي قراءة لحقيقة العقل العربي، فبخصوص تحديد مفهوم العقل العربي يقول الجابري: "إنه ليس شيئا آخر غير هذا الفكر الذي نتحدث عنه، الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافى معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها وتعكس وتعبر في ذات الوقت عن عوائق تقدمهم، وأسباب تخلفهم الراهن، إن وجهتنا الحديثة هي التحليل العلمي للعقل تشكل من خلال إنتاجه لثقافة معينة وبواسطة هذه الثقافة نفسها، الثقافة العربية الإسلامية"(الجابري، 1985، ص 13).
عندما تحدث الجابري عن محاولة نقد للعقل العربي، فهذا لتمييزه عن العقل اليوناني والعقل الأوروبي الحديث، رغم أن كل هذه العقول مارست تفكيرا نظريا عقلانيا، كما ميز بين نوعين من العقل: "العقل كبنية ميتافيزيقية" و"العقل كأداة للإنتاج النظري"، والذي يصده الجابري في عملية نقده هو العقل الثاني، العقل كنشاط ذهني، "العقل المكون"- يميز الجابري في كتابه: "تكوين العقل العربي" بين العقل المكوِن أي جملة المبادئ والقواعد التي تقدمه الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، تفرضها عليهم كنظام معرفي، أما العقل المكوَن فسيكون هو تلك الخاصية التي تميز الإنسان عن الحيوان أي القوة الناطقة، ص 14-15.
يقدم لنا الجابري في مؤلفه هذا الكيفية التي تمكن بها العقل العربي أن يتفاعل في زمانه مع العقول الأخرى، مع العقلية الجاهلية السابقة والعقلية اليونانية، وعرف لنا "العقل العربي من خلال ما هو حي أي من خلال الثقافة التي صنعت الثقافة العربية التي مازالت تحتفظ بها إلى اليوم(الجابري،1985، ص 54)، كما يرى أن النهضة العربية الحديثة لا يمكن أن تقوم إلا إذا نقدنا العقل أي العقل المكون العربي، وعملية النقد هذه تتم بفحص وتحليل وتركيب للآلة أو الأداة أي المنهجية العلمية التي بها ينتج القواعد والأفكار والحلول، والتي هي السبيل الوحيد الذي يوصل الإنسان العربي إلى الحداثة.
في الحقيقة أن القراءة النقدية التي مارسها الجابري على العقل العربي، ما هي إلا قراءة "إجرائية تجريبية للعقل(حرب، 1985، ص 29) لأنه انطلق في العملية هذه من استخدامه للطريقة العلمية المعاصرة، أي طبق على العقل العربي النظرة الابستيمولوجية المعاصرة للعقل كما يقول: فنحن عندما نستعمل عبارة العقل العربي" فإنما نستعملها من منظور علمي نتبنى فيه النظرة العلمية المعاصرة للعقل"(الجابري، 1985، ص 29) بمعنى يجب إحداث قطيعة ابستيمولوجية مع بنية العقل العربي السائد، لأنه يمثل عائقا أمام تقدم العقل العربي وتحديثه، حيث أثار في مقدمة كتابه، "نحن والتراث" هذه الفكرة قائلا: "أن الدعوة إلى تجديد الفكر العربي أو تحديث العقل العربي ستضل مجرد كلام فارغ ما لم تستهدف أولا وقبل كل شيء كسر بنية العقل العربي المنحدر إلينا من عصر الإنحطاط"(الجابري، 1980، ص 28).
ويؤكد الجابري أنه يجب ممارسة النقد ليس من أجل النقد بل لأجل التحرر من الموروث الميت في العقلية العربية، ويطالب إثر هذا النظر في معطيات الثقافة العربية، وذلك بتجاوز القراءات السابقة وكل وجهات النظر السائدة، وهنا يكمن دور العقل كأداة أو كوسيلة لممارسة النقد على ذاته أي نقد العقل بالعقل، وبه نكشف مكوناته وآلياته، وبدون هذه العملية لا يمكن للعرب أن يقتحموا بصورة فعلية عالم المعاصرة، وأن يحققوا الحداثة في بنية العقل العربي، وكل تحديث للعقل العربي يتميز بأبعاد ثلاثة: الحداثة، الإيديولوجيات، التراث، "يقرر الجابري على ورقة أعدها لندوة حول:"التراث وتحديات العصر" "الأصالة والمعاصرة" بأنّه "يمكن للمرء أن يلاحظ بسهولة أن جميع النهضات التي نعرف تفاصيل عنها قد عبرت إيديولوجيا، عن بداية انطلاقها بالدعوة إلى الانتظام في التراث، وبالضبط العودة إلى الأصول (سعيد بن سعيد، 1987)، وإذا ما حاولنا تحليل هذا القول نجد أن الجابري وضع لنا قياسا منطقيا صوريا مقدمته الكبرى: كل الحضارات ارتبط ظهورها بين النهضة والتراث، ومقدمته الصغرى لا نهضة تبدأ من الصفر أو العدم، فالنتيجة هي : كل الحضارات تعود إلى التراث كأصل لها، ويشترط أن يكون هذا الرجوع واعيا، لأن القراءة هنا لغرض التذكر لا لاستفهام.
حدد الجابري مكونات العقل العربي وقسمه إلى "المعقول الديني، واللامعقول العقلي"- المعقول الدني: هو الخطاب العقلي للقرآن، والذي يتحدد بثلاثة عناصر: أولا: القول بإمكانية بل بوجوب معرفة الله من خلال التأمل في الكون، ثانيا: القول بوحدانية الله، نفي الشريك عنه، ثالثا: القول بالنبوة بمعنى الاتصال بالله، وبالتالي بالحقيقة.
أما اللامعقول العقلي: فهو الموروث القديم (أي الخليط من العقائد والديانات والفلسفات، والعلوم التي دخلت إلى الأمة العربي والإسلامية. أنظر إلى فصل المعقول الديني واللامعقول العقلي في الثقافة العربية الإسلامية في الكتابين:- تكوين العقل العربي" للأستاذ محمد عابد الجابري، وبنية العقل العربي عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت طبعة ثانية سنة 1990- ، وهي التي يجب تحليلها، وفحصها ونقدها، لأنها مكونات التراث وبها يتحدد المشروع الحضاري النهضوي، كما كل وعي أو قراءة واعية للتراث معناه مواجهة كل الإيديولوجيات السائدة والمحطمة للعقل العربي، وهذا الوعي يدور التراث في المشروع النهضوي كدلالة إيديولوجية، لأن نقد العقل العربي نستطيع في نظر الجابري صياغة بداية جديدة لتأسيس العقل العربي، وعليه استنتج أنه توجد ثلاثة أنظمة أساسية تكون بها العقل العربي، وبنيت عليها الثقافة العربية وهي "البيان" "البرهان"، "العرفان"- نظام البيان: المعقول الديني، نظام العرفان: اللامعقول العقلي، نظام البرهان المعقول العقلي-.
وبالإدراك النقدي لآلية التفكير، "العقل" يمكن إبراز تنظيم جديد ومنهج نقدي يتغذى بكثير من مفاهيم الفكر المعاصر، وبذلك تصنع معقولية عربية صافية.
إن عملية النقد التي مارسها الجابري على العقل العربي من خلال دراسته لمكوناته وبنيته هي نتيجة لوعي الجابري "بأزمة التطور الحضاري في الوطن العربي" والتي كانت موضوع الندوة الفكرية التي ألقاها بالكويت في أبريل من عام 1984 ضمن "إشكالية الفكر العربي المعاصر" حيث طرح تساؤلين هامين تمثل الأول في: "كيف يشعر الوعي العربي بواقع هذه الأزمة؟"
وثانيهما: "كيف يتصور أبعادها وخطورتها؟" إنها أسئلة هامة، ولكن صعب جدا الإجابة عليها.
يتصور الجابري واقع الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة العربية حاضرا، ويقدم لنا تفسير حول واقع الفكر العربي المعاصر، مؤكدا أنه يعيش ثنائية بين التقدم والتأخر، وأن الفكر هو مجرد انعكاس للواقع، لواقع العالم العربي الذي عرف، ومازال يعرف تحولات في جميع المجالات، والنتيجة أن العقل العربي يجد نفسه يتأرجح بين الانحطاط والتقدم بين الركود والتحرر، بين التجزئة والوحدة، بين الفوضى، واليقظة، بين النظام والإصلاح.
فإن هذه التناقضات في الساحة العربية هي التي تدفع العقل العربي إلى أن ينغلق على ذاته أو يصاب بحالات النكوص، لأن التاريخ في نظر الجابري ينتظر الفكرة حتى تتبلور، ثم يتحرك، فيغير الوعي عند الناس ويغير كل أنماط حياة الإنسان، فبنقد العقل تتكون الرؤية السليمة للواقع وبنقده يتغير الواقع لأنه هو الآلية الوحيدة التي تحقق شروط المشروع النهضوي في العالم العربي.
إن دراسة الفكر العربي الراهن هي دراسة للفكرة والنظرية التي تقود التحويلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن الوعي هو الخلاصة الذاتية والموضوعة لكل ثقافة وإرادة التغيير لكل الأحوال هو انبعاث ونهضة وحب المشاركة في الحضارة الإنسانية بواسطة الوعي النقدي الذي يؤدي غلى تغيير العقل والمعقول في آن معا.
نستطيع في نظر الجابري أن نؤسس ذاتا عربية واعية تساير الحداثة وتجدد التراث، أي تأصيل الحداثة وتحديث الأصالة كما جاء في قوله: "إنه المشروع الثقافي العربي الذي تم التبشير به منذ أواخر الثلاثينات المشروع الداعي إلى تأصيل الحداثة وتحديث الأصالة، والذي بقى مطمح الأجيال الجديدة الصاعدة...وجوانب الخصوصية في وضع إشكالية الأصالة/الحداثة في القرن التاسع عشرة والنصف الأول من القرن العشرين تقودنا إلى الاستنتاج التالي وهو أن إشكالية الأصالة/ الحداثة في الفكر العربي المعاصر ليست مجرد إشكالية ثقافية نظرية، بل إنها مرتبطة بالأوضاع الاجتماعية لكل قطر عربي"(الجابري، 1984،ص55)
تميز طرح الجابري لإشكالية الأصالة/ الحداثة في الفكر العربي المعاصر بميزتين: ميزة معرفية (ابستيمولوجية) من خلال قراءته النقدية للعقلية العربية الإسلامية، والقراءة الاتصالية بين ثقافتين: ثقافة عربية إسلامية محضة، وثقافة أوروبية غربية خالصة، وميزة إيديولوجية، حيث حاول أن يربط بين تطور هذه الإشكالية ثقافيا ونظريا وعلاقتها بتطور الأوضاع الاجتماعية، وإن تجاوز هذه الازدواجية الثقافية في اعتقاد الجابري لا يتم إلا "بارتفاع درجة الوعي بهذه الإشكالية في العالم العربي المعاصر... وبالتحليل النقدي لأسسها الإيديولوجية والمعرفية سيزل عنها تلك البطانة الانفعالية اللاعقلانية التي ترافقها ويفتح الطريق لتجاوزها" . (سعيد بن سعيد، 1987، ص 56-57).
هذه هي الخلاصة العامة التي أبرزنا فيها بصورة مركزة الجوانب الأساسية في فكر الدكتور الجابري وخاصة رؤيته المعرفية والنقدية للمشروع الحضاري المبنى على أسس وقواعد منهجية بنقد العقل للعقل العربي أولا ثم بنقد الحداثة حتى يتمكن العقل من فهم العقلانية العربية والإسلامية المحضة ويتفهم أو يستوعب العقلانية الأوروبية الحديثة، هذا هو الحل الذي يقدمه لنا الأستاذ الجابري كمشروع حضاري ثقافة أساسه تجديد الوعي العربي.
"الفيلسوف الحق ليس هو فقط من تيقن البرهنة ويحكم أصول القياس، بل هو أيضا من يتميز بصواب الحدس وصدق الرؤية ونفاذ الخاطر... ولعل وراء العقل البرهاني (اللوغوس) عقلا آخر أكثر شمولا وأعمق رسوخا فقد نتمكن بواسطته من أن نحدس ونتوهم ونتخيل ونرمز عقل به تنحبس المعاني ويتجدد الفهم وعنه تصدر المناهج ومنه تتكون فروع المعرفة" (حرب، 1985، ص 33-34).
إن الذات العربية والإسلامية لا تحتاج فقط إلى نقد العقل أي إعادة النظر في مفهوم العقل أو أن نفضل بين المعقول واللامعقول، أو بين العقلي والأسطوري، إن العقل كأداة للتأويل المنهجي، استخدمه الإنسان لتفسير وجوده والعالم الذي يحيط به، والحق أن الجابري لم يأت بشيء جديد عن العقل، لأن العقلانية الحديثة حددت كل المهام الممكنة التي يقوم بها العقل، فالعقل يدرك ويحلل ويركب، وينقد ويبدع ويحدد، إنه "ملكه الحكم" التي أسس فيها كانط كتابه الضخم "نقد العقل الخالص" والذي أثر تأثيرا بالغا في العقلانية الأوروبية ولاشك أن الجابري حاول من خلال مشروعه تبيان حقيقة العقل العربي، لكن تبقى دراسته مجرد تفسير أو تحليل لعقلية عربية وإسلامية بعقلية معاصرة، لم يتمكن الجابري من فهم المعاصرة والأصالة ولم يستطع التركيب بينهما في مشروع حضاري، إن تعقل الماضي ليس له معناه تصفيته وإحداث قطيعة معه باعتباره عائقا أمام التقدم.
إننا إذا لم نفهم جيدا التقدم، فلا يمكن أن نحققه، وإذا لم نتمكن من استعادة الأصل أو الماضي فلا يمكن أن نندمج في الحداثة، إن ربط الماضي بالحاضر وإحضاره، والعودة بالحاضر إلى أصوله كدلالة على بلوغ المستقبل "فالماضي هو إذا ما تم وما لم يتم بعد والمستقبل احتمال قائم في الماضي، ففي كل لحظة تتعايش كل أبعاد الزمان وأنماطه وكل لحظة احتمال مفتوح على الماضي والمستقبل، وكل رغبة في المجاوزة والتخطي يمثلها الحاضر يقابلها رجوع وعودة"(حرب، 1985، ص 40-41).
إن تأثر الجابري بالنظر الغريبة للعرب بأنهم أهل بدو، وبوضعهم متخلفين، وأنهم يعيشون على الفطرة والطبيعة، وهو الذي أدى به أن يكون قاسيا في أحكامه على مكونات العقل العربي وبنيته. وعليه لم يتمكن من التحرر من النظرة العلمية الغربية والتي أسقطها على العقلية العربية.
إن الجابري حاول بطريقة البناء النظري أن يقدم مشروعا نهضويا يحدد فيه واقع الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة العربية، حاول تأسيس عقلا جديدا أي وعيا نقديا للواقع، يستطيع أن يحقق التغيير الجذري لكل الأنساق الثقافة السائدة، ولكل الأوضاع الاجتماعية المعاشة، لكن الجابري انغلق على ذاته ضمن العقلانية الغربية، ولم يقدم إلا طرحا نظريا تفسيريا لواقع العقل العربي.
إن الإشكالية الأساسية التي تعاني منها الذات العربية والإسلامية في زماننا الحاضر، هي كيف يمكن الربط بين الفكر والواقع؟ هذه الإشكالية التي حاول الجابري تحليلها بواسطة قراءته للعقل والعقلية العربية والإسلامية، مؤكدا أن الفيلسوف يستطيع أن يتحرر نسبيا من المجتمع والتاريخ-يجب مراجعة موقف الجابري من اللغة العربية ومن عقلية الأعرابي في كتابه- :"تكوين العقل العربي".لأن الفكر ما هو إلا أداة وجدت في الماضي للتعبير عن أمور فقط، وبهذه النظرية حاول معارضة القراءات الجديدة، كالقراءات الليبيرالية، أو الاشتراكية التي كانت قراءات إيديولوجية من خلال النصوص التراثية للواقع الحاضر، ولكن رغم هذا الرفض إلا أن قراءة الجابري للتراث، لم تخل من التعبيرات الإيديولوجية مثلا: يرى أن الثقافة العربية اكتملت مند عصر التدوين، أي جميع فروع الثقافة تأسست ابتداء من منتصف القرن الثاني للهجرة، وتميز هذا العصر باكتمال آليات التفكير العربي "القياس" والكشف الوجداني" و"الاستنتاج العقلي"، أما بعد هذه الفترة تميز الفكر بالجمود وتوقف عن الإبداع، مما أعلن إفلاس العقل العربي.
إن الجابري أخذ موقفا إيديولوجيا من الفلاسفة والمفكرين، الذين جاؤوا بفكرهم بعد عصر التدوين، لأنه يرى أن الثقافة العربية في هذا العصر أرست الأسس ووضعت الأصول، وفننت القواعد، وشرعت للعقل نفسه استنتج هذا من خلال دراساته وقراءاته للعلوم الإسلامية كالفقه، اللغة، الأصول، والكلام، ويعتبر مثلا أن فلسفة الفارابي وابن سينا، ما هي إلا خطابات إيديولوجية وأن فلسفتهم ما هي إلا تعبيرات عن حاجات وأحلام لمشاريع مستقبلية "ليس مقنعا لنا أن تكون ثمة قيمة للفلسفة الإسلامية، إذا كانت خطابا إيديولوجيا مناضلا، لأننا بذلك نتمكن من قراءاتها أي جعلها معاصرة لنا بالطبع لا مقال بريء في النهاية والإيديولوجيا تتخلل كل المقالات ولكن هناك فرقا بين أن نقرأ في الفلسفة مصالح طبقية نامية أو مظهر لصراع اجتماعي وسياسي وعرقي، يكاد يكون مباشرا وبين معرفة كيف يصوغ الفكر تاريخيته (حرب، 1985، ص124).
إن أي فلسفة لا تخلو من الإيديولوجيا، ويدخل شيء من الإيديولوجيا في الفلسفة، لأن الفلسفة تستخدم كوسيلة لدعم الإيديولوجيا، وبالتالي هي بمثابة المقدمة لها، والإيديولوجيا هي فلسفة مغلقة لأنها اعتقاد دوغماتية مغلقة ومما لاشك فيه اليوم أن مهمة الفلسفة هي محاولة بناء المجتمع والعالم عقليا، وذلك بإعادة ترتيب الأوضاع الاجتماعية والعلاقات بين الإنسان والإنسان والمجتمع، ثم بين الإنسان والكون والذات العربية تحتاج إلى مشروع إيديولوجي يحسن تشكل الفلسفة التي تؤسس مشروعا حضاريا يدافع عن قضيته التقدم والتطور.
إن قراءة العقل للعقلية العربية التي قام بها الأستاذ الجابري، ما هي إلا محاولة لدراسة مكونات وآليات العقل العربي بمنهجية أو منطق العقلانية الغربية المعاصرة، وهذا ليس حلا لواقع الأزمة الحضارية التي تعيشها الذات العربية اليوم، بل هي محاولات تفسير أو تحليل الماضي بأسلوب حديث فقط، إن الأستاذ الجابري لم يقدم للذات العربية فلسفة تستند عليها حتى تحقق التطور والحداثة، حتى تثبت وجودها كأمة مع الأمم التي تقود الحداثة، إن تناسيه للهدف الأساسي وهو النهوض الغربي، ووحدة الأمة العربية ومحاولة استيعادها لدورها التاريخي ناتج عن إهماله لقراءة الوعي الغربي الراهن أو الحديث "إن الوعي الغربي الحديث بأشكاله يقترن ببدايات اليقظة العربية، وأنه هدف إلى النهوض بالعرب، وإلى تأكيد وحدة الأمة العربية، واستعادة دورها التاريخي ورفض التبعية (الدوري، 1984، ص 27).
إن الجابري لم يهتم بدراسة المراحل التاريخية التي مرت بها الأمة العربية: مرحلة الحضارة والتقدم إلى مرحلة الركود والانحطاط الفكري والاجتماعي ومرحلة الاتصال بالفكر الحديث والعالم الغربي قائد النهضة الحديثة، هذا ما يثبت تطور الوعي العربي وتاريخيته، وإن تغيير الوعي ينعكس بالضرورة على المجتمع، فكلما حصل تقدم في الوعي العربي كلما ترتب عنه تغيير أو تطور في المجتمع فإن كل عربي يبحث عن الأداة التي ستقود العقل والمجتمع نحو الأفضل والأحسن والأقدر، والتي تفهمه وضعه في العالم المعاصر.
إن هذا الكلام لا يعني بأي شكل التقليل من أهميته قراءة ونقد الجابري، للعقل العربي، ولكن محاولته ما هي إلا اهتمامات معرفية ونقدية للعقلانية العربية والإسلامية الماضية ولا يستطع وضع أو تأسيس معقولية جديدة أي عقلانية حديثة.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 16 سبتمبر 2021