الفيلسوف الفنان عند نيتشه

 

 

 

المؤلف: المرحوم (أ.د.حمادي حميد)

المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة وهران2

مخبر البحث:الفلسفة وتاريخ الزمن الحاضر، جامعة وهران2

 

 

 

 

 

 

إن مايتعلق بثنائية الفيلسوف الفنان عند "نيتشه" لايمكن تمثله إلا من خلال المعنى الديونيزوسي، وما يميز هذه للرؤية للفن، ليس نموذجا لفنان مبدع للأشكال والأساليب فقط، ولا موضوع الفن كأثر، بل أكثر من ذلك أن هذه الرؤية لاتفصح عن نفسها كتحويل للفلسفة إلى إبداع فني. من هذا المنطلق يحتاج مفهوم الفيلسوف الفنان عند "نيتشه" إلى تحديد خاص ضمن فلسفته الجمالية، حول مفهومه للإبداع والبعد المأساوي، أي في علاقته بالتجربة الديونيزوسية. غن واحدة من التحليلات التي تطرح الكثير من الإبهام والغموض، هو تحليل "جان نوال فوارنيت" J.N.vuarnet، لهذا المفهوم، والفلسفة بمعناها الكلاسيكي1، فإن المقارنات التي يقيمها فيما يخص مفهوم "النار" و"الإحتراق" مع "جوردانو برونو" G.Bruno  أو مفهوم الفردية Singularité مع كيركجارد، تضخم من هذا الغموض حول مفهوم الفيلسوف الفنان عند "نيتشه"، فهو يقتطع بعض النصوص من "نيتشه" و"برونو" قرابة مفهومية بينهما2.

إن هذا التقريب بين نصوص "نيتشه" و"برونو" أو هذه المرجعية لمفهوم الفردية عند "كيرجارد"، حتى وغن كانت مشروعة، فإنها تحجب عنا أصالة مفهوم الفيلسوف الفنان عند "نيتشه"، فعلى سبيل هذه المفارقات نستطيع أن نقيم تأويلا مشابها بين "نيتشه" و"رامبو" يخص "الشاعر الرائي" Le poète voyant  ، أو بينه وبين "بودلير" Beaudlair ، لكن مثل هكذا مقارنات تحثث المفاهيم من تجربة الفيلسوف لتعممها على تجارب أخرى، هي تأويلات أقرب للترقيع الهرمينوطيقي Bricolage Herméneutique ، ذلك أن مفهوم الفيلسوف الفنان لايمكن فصله عن الفضاء الذي أنتجه في فلسفة الجمال النيتشوية بوصفه تعبيرا للقوى الغريزية للفن Les forces de l’art .

أما يتعلق برمز النار الذي أقام على أساسه "فيورنات" المقاربة السابقة، فإن معناه عند "نيتشه" لايتقاطع البتة مع مفهوم "جيردانو برونو" حول استهلاك الذات، الإحتراق، التضحية، وإنما هو يعبر عن استعارة مفهوم "هيراقليطس" Héraclite، حول الفنان والطفل وبالرجوع إلى تجربة الهدم والبناء في عالم مدرك جماليا3.

يقول "نيتشه" في هذا المعنى حول البعد الجمالي:" وحده الفنان ولعب الطفل الذي تعاوده النار بشكل أبدي، في هدمها وبنائها بكل عفوية ... إنها غريزة اللعب، وحدها التي توقظ وتدعو إلى عوالم جديدة...4

ومن هذه الناحية فقط، ينسجم هذا الطرح مع تجربة "ديونيزوس"، في المأساة الإغريقية الأول، ثمة إعادة تأهيل للوجود جماليا من خلال إدراك الكثرة والتعدد، البناء والهدم في ضرورة الوجود بوصفها شبيهة يتكون الأثر الفني Oeuvre d’art، وما يقصده "نيتشه" هو كيف تتلاءم الضرورة واللعب، الصراع والتناسق ليتمخض عن تجربة جمالية لإدراك فاعلية الوجود، بهذا المعنى فقط يمكن استيعاب مايدعوه "نيتشه" بالفيلسوف الذي يتخذ التجربة المأساوية كتجربة لإدراك الحقيقة خارج حدود الميتافيزيقا، بوصفها إدراك للوهم والظاهر، في تعدده وانفتاحه على الإختلاف والتناقض ، إنه الفيلسوف الذي يحتاج القوة الغريزية للفن، يقول في كتاب "الفيلسوف": " ...إننا نحتاج إلى القوى الفاعلة في الفن لنهشم الغريزة الامحدودة للمعرفة"5.

والحاصل انه في هذه النصوص يشير إلى هذا المفهوم أو هذا النموذج للفلاسفة بلغة المستقبل، دلالة على أن تاريخ الفلسفة لحد عصره لم ينضج لميلاد هؤلاء الفلاسفة، لذك يشير إليهم كأفق وشفق للمستقبل القريب: "الفلاسفة القادمون" les philosophes de l’avenir6، فلاسفة يعيدون الإعتبار لخبرة الحياة في كل تصور مقابل للحقيقة، ويمنحون للصراع معناه الحقيقي في نزوع الإنسان لإدراك هذه الحقيقة، وللإرادة فاعلية في تمثل ظواهر الوجود والحياة في تعددها وانفتاحها بين بعدي :الظاهر والباطن Apparition/illusion ، ثمة إذن من خلال مفهوم الفيلسوف الفنان، إعادة تأسيس كل فلسفة مستقبلية على مفهوم الإبداع لا مفهوم المعرفة، ذلك هو الفهم الذي دعمه "جيل دولوز" في كتابه :" ما الفلسفة"، عندما وضع منحاه الفلسفي في مضادة الكوجيتو الديكارتي ، الذي يؤسس لسلطة قداسة على طريقته، لذلك اعتقد "دولوز" لمعرفة الذات لايكفي العودة غلى "ديكارت" أو "هوسرل" بل يجدر الذهاب إلى "سبينوزا"، فالفكر ليس تمثلا ولاحتى "تواصل " وإنما هو إبداع مقاوم للحاضر7.

هذا التمييز بالذات الذي أقامه "دولوز" بين المعرفة والإبداع يكشف عن استمرار للكوجيتو النيتشوي ، فالفيلسوف الفنان هو بالذات فيلسوف مبدع في مجابهته، غير أن تلك المجابهة كانت تأخذ عند "نيتشه" معنى مرح على طريقة قدماء الإغريق.

 

الإحالات:

 

  • 1-Noel vuarnet :le philosophe artiste, union général d’édition 1997, p.112.
  • 2-Ibid,p.114.
  • 3-Ibid,p.121.
  • 4-5-Kostas Axelos, Héraclite et la philosophie Ed, Minuit, 1968,p.203.
  • 5-Nietzsche, le livre du philosophe, aph(30).
  • 6-Ibid, aph(38).
  • 7-Gilles Deleuze et F.Guatari, qu’est ce que la philosophie, Ed, P U F, 1966,p.103.

 

 

 د.هشام بن دوخة

ذكرى وفاة الأستاذ حمادي حميد (رحمه الله)

 19 ديسمبر

 

 

 

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة