ما بعديات البلاغة الجديدة: بحث إشكالي في الفلسفي؛ السيميوطيقي والقانوني

 

المؤلف : أنوار طاهر (1)

ماجستير آداب في الفلسفة

باحثة ومترجمة، من العراق، متخصصة في الدراسات الفلسفية والحِجاجية

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 

 

 

 

المقدمة[2]:

يوجد، في أوساط القانونيين المتخصصين، حالة ارتياب فِطريّ تجاه فلسفة القانون، وهو أمر له، في الواقع، ما يبرره بقدر كبير. ذلك لأنه، في كثير من الأحيان، لم تكن للفلسفة في القانون، سوى مجرد صلة نسب ضعيفة البسناها لباساً لم يكن على مقاسها، أي، أطبقناها على القانون، من دون الاهتمام بمشكلاته البارزة ومناهجه الخاصة، وباعتبارات تقييمية تنشأ عن النظر في تخصصات أخرى، مثل الرياضيات والفيزياء. وأتساءل فيما إذا لم تكن عبارة «نظرية عامة للقانون» [والتي ظهر استعمالها كبديل عن فلسفة القانون، في بداية القرن التاسع عشر، تحت تأثير التيارات الوضعية والتجريبية]، قد جاءت بمثابة ردّ فعل ضدّ فلسفة في القانون على اعتبارها فلسفة تطبيقية للقانون وليس بوصفها فلسفة ناتجة عن استبطان تأملي تجريدي في القانون.       

اعتقد أنه لكي تكون فلسفة القانون نافعة لمزاول مهنة القانون، ومصدر إلهام اصيل ومثمر للفيلسوف، يجب أن تبدأ من دراسة القانون كما يؤدي دوره على أرض الواقع بالفعل، أي من دراسة للقانون الوضعي/ أو كما هو كائن، وليس للقانون كما ينبغي ان يكون. إلى جانب، أننا، في مثل هذا التحليل، سنستخلص أفضل الحُجَج ضدّ النزعة الوضعية القانونية positivisme juridique، والتي يتم تصورها على إنها نظرية للقانون أو  كأيديولوجيا[3].  

إن تحليل القانون؛ ومصادره؛ وتطوره؛ واللغة التي يستخدمها، والطريقة التي يعمل بها فعليًّا في مجتمع معين، لن يسمح بأن يكون هناك استبعاد متواصل على نحو عقلاني مُمنهج، لكلّ ما يتعارض مع فلسفة في القانون لا تأخذ في الحسبان سوى أحد مظاهره وتهمل الأخرى. وإذا قادنا، مثل هكذا فحص تمهيدي، إلى أفكار عامة، سيكون له أيضاً نتائج إيجابية مفيدة للفلسفة لأنه، من خلال تسليط الضوء على السمات البارزة للقانون، وحتى بجعل القانون نموذجاً بامتياز للطريقة التي يؤثر ويتفاعل بها الفكر مع الفعل بشكل متبادل، يمكن توسيع التصورات الفلسفية، والتي  غالباً ما تكون مقتصرة، في ثقافتنا، على مجرد استبطان تأملي تجريدي في العلوم والفنون.  

وحتى تكون استنتاجاتنا العامة مبنية على قاعدة مفاهيمية ومنهجية متينة، فلا بدّ من ان يكون هناك عمل مشترك وتعاون متبادل بين القانونيين المتخصصين والفلاسفة[4]. فالعمل الجماعيّ، في الواقع، يدفع مزاول مهنة القانون نحو الخروج من روتينه الخاص، والفيلسوف نحو النزول إلى الما هو ماديّ عمليّ حقيقي. وبفضل مثل هكذا عمل مثابر دقيق، سيتمكن القانوني من مَوضَعة جهوده بشكل أفضل بالنظر إلى جهود العالِمٍ، وسيكون الفيلسوف قادراً على أن يفهم بشكل أفضل الطابع المميز  للفكر القانوني. إن تقدم فلسفة في القانون، منظوراً إليها على أساس تحليل الخطاب القانوني وممارساته في الواقع، وصدامه مع أفكار عامة نشأت عن استبطان تأملي تجريدي في تخصصات أخرى، سيكون له مفعوله في إزالة الغمامات، التي حالت، لفترة طويلة، دون عقد حوار مثمر بين القانونيين والفلاسفة.  

ما بعديات البلاغة الجديدة:

بحث إشكالي في الفلسفي؛ السيميوطيقي والقانوني[5]

قليلون همّ جداً أولئك الفلاسفة الذين يركزون على سلسلة التحولات [الإجرائية من المستوى اللغوي المنطقي-سيمانطيقي logico-sémantique إلى المستوى السيميوطيقي sémiotique][6] التي تحصل اثناء عملية صياغة القانون واستحداثه وتطبيقه، لأنهم يبحثون، في العادة، عن القيّم المطلقة كالوجود؛ والحقيقة؛ والخيّر، والعدالة، بهدف إقامة نظام نظري [يتكون من روابط لغوية تجريدية لعقد تمايز وتعارض بين الأشياء] ووضع نموذجاً مثالياً أعلى للعلاقات الأجتماعية المؤسسية يغنيان كليهما البشرية عن اللجوء إلى أساليب التفكير والممارسة التي يقترحهما علينا الاستدلال القانوني. فلا يحتاج ما هو بديهي، في الواقع، إلى إثبات، وما هو واضح يمكننا أن نفهمه على الفور. وإذا منح الجميع تأييدهم لأطروحات؛ أفكار؛ آراء معينة من دون نقاش، فهذا لأنها تعتبر «من نافلة القول»، ويمكننا عند الضرورة ان نتغافل حتى عن ذكرها. في ضوء ذلك، يجب على النموذج المثالي الأعلى للْبَدَاهة، في الفلسفة، أن يخلصنا ليس فقط من مساوئ الاستعانة بطرق إثبات الوقائع ومن تأويل النصوص، بل، وكذلك، من استحداث قوانين أو تطويرها، كلما أمكن ذلك. فالمجتمع المثالي، لكونه مجتمع لا يعرف الاختلافات، فهو ليس بحاجة لقضاة ولا لمحامين. ولطالما تمنى هؤلاء الفلاسفة لو كانت القوانين منقوشة في قلب، ووجدان وعقل الجميع، مع ذلك، إذا كان لا بدّ من وجود قوانين، فيجب أن تكون واضحة؛ ودقيقة المعنى لا تحتمل اللبس والغموض، وبأقل عدد ممكن من الكلمات. وفي هذا الصدد، نلاحظ مع زميلنا رجل القانون ومؤرخ الفلسفة بول فورييه[7]، إنه في المجتمعات الطوباوية لا يتمّ الاكتراث بالقانون وبجميع المؤسسات التي تطبقه، ويتمّ دائماً تهميشهما باختزالهما في أبسط أشكالهما. فالمجتمع الطوباوي، وبسبب من تحقّق وجوده المرجوّ عينه، هو مجتمع لا يعرف النزاعات والمحاكم، لأن الجميع فيه يعرف دوره وواجبه، ويقوم بكلّ ما هو متوقع منه بصورة تلقائية.  

هذا النزوع نحو إنكار، بل وإزدراء القانون ولعامليه المهنيين الذين يساعدون في إقامته ولأعمالهم، يعكس النموذج المثالي الأعلى الإطلاقيّ في الفلسفة. إذ بقدر ما يستطيع الفيلسوف، بانطلاقه من مبادئ أصلية أولى؛ إلزامية، وبديهية، أن يعلمنا حقائق لا تقبل الانكار ولا ترقى إلى الشكّ، فإنه يجعلنا ننخرط، بطريقة ما، في الرؤية الميتافيزيقية للأشياء، وقد تصورنا أن نجاح هذه الرؤية العقلانية، أي الصياغة الشكلية اللائكية غير الكهنوتية لفكرة الكَشْف، تمكننا من الاستغناء، في كلّ حقل معرفي يمتدّ عبره الحدس الفلسفي، عن الاستعانة بالتقنيات والأوجه غير اليقينية وغير القطعية التي يتسم بهما القانون.

إننا في العادة نطابق هويّة هذا النموذج المثالي الإطلاقيّ مع نزعات الأعتقاد القطعية الدوغمائية dogmatisme من كل صنف [يفترض وجود جماعات ذات سمات طبيعية يشترك فيها الجزء مع الكل]، والتي تعتقد إنها قادرة على أن تعلمنا منهجاً نكتسب من خلاله حقائق مطلقة ثابتة لا شكّ فيها. لكننا ننسى، حينها، إن المذهب الفلسفي الشكيّ الذي وضع مقدرتنا على حيازة معرفة يقينية في موضع شكّ، هو ليس إلا مجرد شكل من أشكال تلك النزعة الإطلاقيّة absolutisme نفسها عندما ينفي، لهذا السبب ذاته، السمة العقلانية عن الإنسان. فالفيلسوف باسكال يجد إن الدليل على ضعف الإنسان وانحداره إنما يكمن فيما يمرّ به من تغييرات تتعلّق بتحديد قيمة ما هو صائب وما هو عادل، ويضيف، إن الإنسان الوضيع لأنه لم يعد بكائن ذي عقل، أي غير قادر  على تعقّل ما هو مطلق، فهو بحاجة إلى كَشْف ميتافيزيقي للتعويض عن عجزه.    

لكن ألا يمكننا أن ننظر إلى الطريقة التي يتوصل بها الإنسان إلى معالجة ذلك النقص الذي لديه في المعرفة اليقينية الراسخة، على أنها تمظهر لسمته العقلانية [باعتبارها مقدرة أو مَلَكَة للاستدلال والتفكير والتعقّل والإدراك وبناء شكل من العلاقات داخل نظام لغوي منطقي-سيمانطيقي، ينشئها العقل بين عناصر المعرفة في الواقع، فتتكون علامات تعبيرية ذات محتوى سيميوطيقي، في عبارات أحكام يتم النظر إليها على أنها افتراضات أولية عند توليد المتكلم للقول، أو عند إسناده المعنى لمحتوى معين عند النطق بالقول أو قراءته. هذه العملية تجري في إطار العلاقة الموجودة بين الشكل السيمانطيقي للقول ومحتواه وهي علاقة تتميز بأنها مكوِّنة للعلامات، وبالتالي، فهي مبتكرة للمعنى، أو بالأحرى لمفعول المعنى]؟ أليس العلم البشري عبارة عن مجموعة افتراضات ومناهج يصوغها الإنسان لتكون بديلاً عن المعرفة الكليَّة المطلقة التي تنقصه؟ أليس القانون هو، كذلك، عبارة عن مجموعة تقنيات اثبتت نجاعتها، وبفضلها يحاول البشر سدّ نقصهم لصفة الكمال الروحاني، نظرا لأنهم يعيشون في مجتمع ارضي وليس في الفردوس؟ صحيح أنه لم يُسَنَّ أن يكون هناك مشرِّعين أو قضاة للقديسين في الفردوس، لكن فيما يتعلّق بالنموذج المثالي للعقلانية الفلسفية، هل يجب أن يقدم للبشرية خصيصاً، رؤية لفردوس دنيوي حيث يسلك جميع البشر الذين أصبحوا حكماء، سلوك القديسين، أم يجب عليه أن يهدف أيضاً، وربما في المقام الأول، إلى التأسيس لمجتمع بشري بأخطائه وعيوبه، وتنظيمه على الأرض بأقل قدر من العنف؟ وبما أن القانون يستجيب لهذا الشاغل الأخير، فمن المفهوم أن يكون هذا الحقل مصدر استخفاف وازدراء من قبل أولئك الذين أهدافهم تكون ذات طابع إطلاقيّ، في ضوء اعتبارهم أنه [فقط مجموعة أساليب أو تدابير مؤقتة أو آنية تستجيب لظروف معينة عند الاقتضاء]، أي جملة من الحِيَل لا تليق بفيلسوف، لكننا ندرك، أن القانون، وعلى العكس من ذلك، هو موضوع جدير بالدراسة من قبل الفلاسفة الذين يتطلعون لابتكار طابع عقلاني في تنظيم المعارف والافعال غير الكاملتين والمعرّضتين للخطأ من الأساس.        

لقد كانت النزعة العقلانية الكلاسيكية للفيلسوفين ديكارت وسبينوزا، أثناء بحثها في العلاقات القائمة بين العقل والإرادة، تستلهم آرائها وتقييماتها من نموذج إطلاقيّ، وبذلك، تكون قد زيَّفت العلاقات ذات الفاعليّة المؤثِرة والموجودة بين هاتين المَلَكَتين بإلغاء إحداهن، في النهاية، لصالح الأخرى.  

في الواقع، إذا انطلقنا من الفكرة القائلة بوجود إرادة كاملة، فهذه الأخيرة تكفي بذاتها لتشكل كدعامة [من المفاهيم البديهية تُشرِّع] لنظام عقلاني وعدالة مطلقة، فما يقضي به الكائن المتعالي يعتبر، بناءًا على الحقيقة نفسها التي تقول إنه قد قضى بهذا الأمر، هو حقّ وعادل؛ وإرادته هي منشئة لكل ما هو موجود فعلياً في الواقع والأساس التشريعي لجميع المعايير، لأنه لا يمكن لشيء أن يحدّ من قدرتها المطلقة، ولا من كمالها؛ وإذا اكتشفنا أن هناك ثمة نظام في الطبيعة، فهذا لأن الحكمة المتعالية تتباين فقط لتُظهر، بالمعجزات، قدرتها غير المتناهية، ولتتجلى باللطف أو النعمة، عظمة محبتها. في المنظور الديكارتي، حيث تصبح الإرادة المتعالية هي معيار للعقل، وحده الكائن المتعالي مَنْ يكون حرًّا ومُوجِداً، ولا تُعطى أي قيمة إيجابية للإرادة البشرية التي، عندما لا تسترشد بما هو بديهي واضح، لا يمكن لها إلا أن تقع في الخطأ وتسقط في الأثم. ولكي يتصرف الإنسان كموجود ذو عقل منطقي، يجب عليه، بعد أن يُطهّر نفسه من جميع العوائق ذات الأصول الفردية والاجتماعية، أن يخضع للإرادة المتعالية التي تمثل تمظهراتها [في العقل عبر الهيكل الشكلي للعلاقات الإلزامية المشيدة قبلياً داخل نظام لغوي منطقي-سيمانطيقي بواسطة مَلَكَات الاستدلال والتفكير والتعقّل والإدراك]، هي أوامر تفرض نفسها على الحدس البشري بسبب بداهتها. ويخبرنا الفيلسوف ديكارت بوضوح شديد، في الجزء الثاني من كتابه (خطاب المنهج لسنة 1637)، إن الأحكام التشريعية التي تكون من عمل واحد بمفرده هي أفضل بكثير من تلك التي وضعها العديد على مرّ التحولات التاريخية، لأنه من السهل على المرء أن يتبع نموذج نظام عقلاني [سيمانطيقي sémantique يفترض مسبقاً – حسب التعريف الشائع للسيميولوجيا Sémiologie بوصفها نظام دلالي قبلي للعلامات –تعيين هويّة هذه العلامات بنظام نظري؛ دقيق، ومحدود لعلاقات إلزامية تربط الدال بالمدلول]، ويفصل نفسه، عما هو عرضي احتمالي contingence يشكل عادات وأعراف سكان بلدٍ معين. وهنا، نرى كيف إن الرؤية الديكارتية للعلاقات القائمة بين الكائن المتعالي والكائن البشري كانت تؤسس لنظرية السلطة المطلقة بجميع اشكالها وتمهد الطريق لها مسبقاً. فإرادة الملك أصبحت، بفضل النعمة الربانية، هي الشريعة القانونية، فقط لأنها انبثقت عن سلطة مقدَّسة. هذه الأيديولوجيا تمجّد نظام المَلَكَية المطلقة وتبرر استخدام القوة بحقّ أولئك الذين يجرؤون على الثورة ضدّ جَوْرها وتعسُّفها.      

أما بالنسبة للفيلسوف سبينوزا، فمن منطلق إقراره بمطابقة هويّة الإرادة مع العقل [بوصفهما يمثلان هويّة واحدة في مختلف السياقات والشروط]، شَرَع بقلب كلّ تلك التصورات. فإذا كان العقل، بالنسبة للفيلسوف ديكارت، هو ليس سوى خضوع وتسليم لإرادة كاملة، فإن الإنسان، بالنسبة إلى سبينوزا، هو حرّ عندما تسمح له ارادته أن يكون مُقادًا بالكامل من قبل أفكار عقله الكليَّة؛ الصحيحة السليمة؛ المتشابهة والمتطابقة، والملائمة والكافية. فهو يمجَّد حرية الإنسان الذي يتحدد سلوكه بالتسلسل الدقيق الصارم لأفكاره الواضحة والمتميزة. لكن هذه الحرية هي ليست امتثال لنظام [لغوي منطقي-سيمانطيقي] اوليّ مشيد مسبقاً، إنها حرية الآلات التي تعمل بسلاسة من دون اية مشكلة، والتي، حتى عندما تزودنا بنتائج لم نكن قادرين على التنبؤ بها، فكل ما تقوم به، لتحقيقها، هو فقط تنفيذ صائب ودقيق لعمليات جرى انشاؤها وتركيبها من أجلها. إن الحرية، التي يتم تصورها على هذا النحو، تتطابق هويّتها مع تسلسل نظام عقلاني [لمصطلحات وتعاريف ما بينية متبادلة متتابعة ومنتظمة، تشكل في مجملها البنية التحتية لأبستمولوجيا عقلانية وضعية تطرح نفسها على إنها المبدأ المفسر لاتساق الخطاب ووحدة معانيه وتنظيمه السينتاكسي والسيمانطيقي والمنطقي]، وبالشكل الذي لا يدع مجالاً ابداً لأي إمكانية في الاختيار وفي صناعة القرار.

إذن، سواء كان حسب تصور ديكارت أو تصور سبينوزا، فإنه ليس للإرادة البشرية، التي تسعى إلى تجنب الوقوع في الخطأ والسقوط في الاثم، أي إمكانية في القيام باختيار ناقص غير كامل، وإن كان معقول يتوافق مع العقل العملي [الذي يستند فيه المرء على منطق الحِجاج البلاغي في تبرير قراراته، وليس على منطق الحِجاج البرهاني الذي يعتمد على مقدمات أو مُسَلَّمات صحيحة تنتهي إلى نتيجة صحيحة بناءًا على قواعد استنباطية دقيقة صارمة لا تقبل الجدل ولا النقاش، وبمعزل عن أي تدخل للإرادة البشرية]. لأن مثل هكذا اختيار ناقص، الذي وإن كان إجباريًّا غير طوعيًّا لكنه يسترشد بقواعد معينة، هو اختيار يفترض مقدماً التمتع بالحقّ/أو القدرة في صناعة القرار ومزاولته/أو مزاولتها داخل حدود الأُطر المشيدة مسبقاً. مع ذلك، هذا الشرط المزدوج يتعارض، على السواء، مع فكرة وجود إرادة كاملة هي النموذج المعياري لجميع المعايير [والذي يتم بالقياس عليه تشكيل قواعد الما ينبغي الاسترشاد به والامتناع عنه واستعمالاتهما الاجتماعية والفردية، وتمييز القيّم وتشكيل حُكم بمدى صحتها أو كذبها]، وهو شرط يتعارض، كذلك، مع فكرة وجود عقل كامل قادر على وضع وتعيين هويّة واحدة لحلّ صائب يُطبّق على جميع المشكلات، ومن ثمة، القضاء على أي قدرة في تحقيق اختيار بعقل نقدي مستنير. والعمل التقليدي المعتاد للقانون هو القيام، وبشكل فعال مؤثِر على ارض الواقع وبطرق مختلفة، بتنظيم الجدلية القائمة بين إرادات وعقول بشرية، وبالتالي، ناقصة غير كاملة بالضرورة. وفيما يتعلّق بالتقنيات المنهجية التي يقدمها لنا القانون في مجال ممارساته العملية، والتي سنعالجها فيما تبقى من عرضنا لهذه الورقة، فهي ليست بذات قيمة بالنسبة للميتافيزيقيين المأخوذين بفكرة المطلق والبحث في مشكلات ميتافيزيقية بأساليب تجريدية، لكنها كم تُعد ثمينة بالنسبة للفلاسفة الذين يدركون ويعترفون بوجود أوجه قصور محتومة للشرط الإنساني.

لقد كان الأمل القديم للميتافيزيقيين يتمثل في إزالة الرمال المتحركة لآرائنا واعتقاداتنا، بغية العثور  على الصخرة الثابتة التي من شأنها أن تكون بمثابة الأساس الراسخ الذي لا يتزعزع لنظامهم الفلسفي. وقد كان البحث عن هذه الحقيقة الأولى، التي تفرض نفسها ببداهتها على جميع البشر الذين يتمتعون بالعقل، يمثل النهج الأوليّ لفلسفة تنشئ نفسها وتتشكل كَعِلم دقيقٍ المعنى واضح الدلالة لا يحتمل اللبس؛ صارم مُحكم، ينتظم بطريقة ثابتة ومقاومة لكل تغيير. إنه علم لم يكن من الممكن أن يكون له مسار التفكير/والاستدلال الذي يتسم به علم طبيعي، كالفيزياء والكيمياء، لأن هذه العلوم الأخيرة يتم صياغتها وتطويرها بالاستناد إلى تجارب وقواعد يوجد اتفاق مسبّق عليها، ولأن الأمر يتعلّق بتوحيد جميع الجهود، في إطار فرضيّة جامِعة ومثمرة. هذه الفرضية هي أقل يقيناً وقطعية من الوقائع التي يتم الانطلاق منها، لكنها تتمتع بميزة إمكانية دمجها لهذه الوقائع داخل نظام [من العلاقات المنطقي-سيمانطيقية والسيميوطيقية] من شأنه أن يفسح المجال أمام تنبؤات ستختبرها التجارب المستقبلية. بدلاً من ذلك، ينبغي للبحث عن المبادئ، أن يمدّ الفلسفة، التي يتم تصورها على إنها علم دقيقٍ صارمٍ مُحكم، بمسار التفكير/أو الاستدلال الذي يتسم به نظام [بنية العلاقات اللغوية المنطقي-سيمانطيقية] الاستنباطي déductif حيث تفرض فيه القضايا البرهانية نفسها ببداهتها على جميع الأذهان، ومما يكفل، بالتالي، إنهاء الخلافات والنزاعات بين البشر. لكن من غير الممكن اختزال المشكلات البشرية في مسائل ذات قوالب أو صيغ شكلية مجردة، وحتى لو زعمنا أنه من الممكن أن نستخلص، من صيغة بديهية، بسبب شكلها الخالص المحض، مجموعة نتائج تبدو ملائمة لحلّ مشكلات مادية ملموسة ومثيرة للجدل، فهذا لأن هذه الصيغة قد تمّ تفسيرها أو تعميمها بطريقة لم يعد بمقدورها أن تستمر في كسب تأييد جميع الأصوات. نظراً لإن محاولات تشييد أنظمة [لغوية منطقية-سيمانطيقية] للفلسفة «مبرهن عليها بطريقة هندسية مضاعفة» «more geometrico»، وبغض النظر عن عبقرية أصحابها، قد انتهت بالفشل حتى الآن، فمن المعقول أن نتساءل عما إذا كان الفيلسوف، من خلال استلهامه من التقنيات المنهجية المستخدمة في ممارسة القانون، ألن يضاعف من فرص نجاح مشروعه الفلسفي.  

إن القانونيّ سيجعله يكتشف، بالفعل، كيف أن إقرار دستور أو مادة قانونية أساسية جديدة، كان يسبقه دائماً استيلاء على السلطة بالقوة، وقطيعة عنيفة مع نظام كان موجودًا من قبل. فمن قبيل الوهم الافتراض أنه من الممكن لنظام جديد أن يسود ويكون مُلزماً للجميع عبر طابعه العقلاني وحده من دون اللجوء إلى العنف، وبغية تحقيق هذا الغرض، ينبغي علينا أن نكون متفقين، على الأقل، حول المعيار [الذي يتم بالقياس عليه تمييز الحامل/أو المنتمي/أو المتطابق مع] صفة الما هو عقلاني rationnel، فهذا المعيار يستلزم أن يكون الجديد مبنيًّا بصورة متسقة مع اتفاق معين تمّ تشييده سلفاً، بحيث لا يكون سوى امتثال لهذا الاتفاق وتنفيذ فعّال لنطاق تطبيقه. وعليه، إن طابع الما هو عقلاني rationalité، [باعتباره موضوعاً/أو "واقعاً réalité " يتشكل طبقاً لنماذج وفئات وتصنيفات سيمانطيقية قابلة للإدراك والتمييز من قبل الذات العارفة]، يعرّف نفسه ليس على أنه قطيعة rupture، ولكن على أنه اتّصال وثبات واستمرارية continuité؛ أي مُطابَقة مع ما تمّ قبوله بالفعل والتسليم به قبلياً، وإقامة الحُجَج وتفسيرها [بصورة سيمانطيقية تجريدية] بالاستناد إلى الماضي. إن أولئك الذين يعتقدون ببداهة الأفكار، كقوة مهيبة لا تقاوم، لأنها تنبع من عقلنا الخاص بكل واحد منا، والتي أمامها، لا يمكن لأي إرادة تجاوزت أحكامها المسبقة وعاداتها، سوى الخضوع لها، يستدعون مماثلة للتشبيه والقياس مشكوك فيها للغاية. وهي أن الأفكار ستفرض نفسها على الذهن المتيقِّظ، تماماً كما يفرض الواقع الحسيّ نفسه، في وضح النهار، على أعيننا المفتوحة بانتباه شديد. لكن الأفكار ليست محض أشياء، لأنها تستلزم مقدماً، وباستمرار، وجود لغة وتعبيرات expressions تقع ضمن سياق ثقافة معينة، [وهذه تعبيرات تشير إلى سلسلة رموز وأبجدية مُعطاة، نكتسبها بالتطبيق المُحكَّم  الصارم لعدد من قواعد ميتا-لغوية métalangage تصوغ بنية نموذج الما ينبغي علينا القيام به، وتتطلب إنجاز مجموعة عمليات عقلية للإدراك والمعرفة تقوم في العموم على الانتقال من حالة إلى أخرى ، وتفترض مسبقاً وجود ذات غير محددة أو محايدة تصدر تعليمات وارشادات لذات أخرى بشرية كانت أو آلية]، وبالتالي، فإن الأفكار تقتضي، في جوهرها، اجراء استقراء أو استنتاج extrapolation يتم بالقياس على التجربة، [على اعتبار أن الاستقراء يشير  إلى الفعل الذي نقوم فيه إما بتوسيع نطاق ما تمّ ملاحظته على سلسلة قيّم تتعلّق بوظيفة معينة، وتعميمه ليمتد إلى سلسلة قيّم أقل من تلك السلسلة الأولى أو تقع خارجة عنها؛ وإما بتوسيع ما تمّ ملاحظته أو البرهنة عليه في حقل معين،  وتعميمه ليمتد إلى ما وراء أو خارج حقل معين أخر]. أما الأفكار الأقل إثارة للشك والجدل، فهي تلك التي تنتج: عن التطبيق الصائب لقواعد معترف بصلاحيتها ومُسلَّم بها؛ وعن الولاء للأعراف المعتمدة [في وسط أو محيط معين حيث يتم الاستجابة لها باعتبارها اعراف طبيعية أو قاعدة تنتمي لقواعد ميتا-لغوية تصوغ بنية نموذج الما ينبغي على الجميع القيام به]، وعن المطابقة والامتثال لقاعدة العدالة التي تطالبنا بالتعامل مع جميع العناصر المنتمية لفئة catégorie أساسية واحدة بطريقة واحدة، وهو  الأمر الذي يعني، عند تطبيقه حسب النزعة الشكلانية formalisme، إنه يجب علينا التعامل مع تعبيرات لغوية لها صيغة شكلية واحدة على إنها تعبيرات قابلة لاستبدال أحدهما بالأخر على نحو متبادل. فأصبح عقلنا، بوصفه مقدرة أو إمكانية لإنجاز ممارسات استدلالية خِطابية raisonnement discursif [لغوية كانت أي نماذج سلوكيات شفاهية تتجسد في شكل لغات طبيعية؛ أو غير لغوية أي نماذج سلوكيات جسدية تتمظهر من خلال أنظمة الحواس]، لا يشير إلى ذلك الحدس intuition [الذي يمثل أحد مكونات طوبولوجيا القدرات أو المهارات اللغوية والسيميوطيقية للتعرف والأدراك لدى الموضوع الفاعل، ويتمظهر اثناء صياغة واعداد وتشكيل اطروحات وافتراضات مطروحة للمعالجة والتداول –على العكس مما تجري العادة في النظر للحدس، حسب تعريف الفلسفة القديم، على أنه شكل من اشكال المعرفة المباشرة–]، بل إنه، أي العقل، أصبح يعني الولاء والامتثال لقواعد [ميتا-لغوية تصوغ بنية نموذج الما ينبغي عليه القيام به]. إن النزعة العقلانية الكلاسيكية قد شبَّهت المعرفة، وبكل بساطة، بنوع من التأمل أو الخبرة التي يمكن أن تفرض نفسها على كلّ ذهن يقِّظ، متجاهلة لماضيه بأكمله، في حين إن الأفكار الجديدة تتكون، في الواقع، وتتشكل بناءًا على مرتكز لأفكار قبلية سابقة يكون لها بمثابة الضمانة والكفيل.  

وقد دعا الفيلسوف ديكارت، في بحثه عن الحقيقة الأولى، إلى الشكّ الكليّ، وطالبنا الشروع بذلك من خلال استبعاد آرائنا أو اعتقاداتنا أو قناعاتنا المكوِّنة لأحكامنا القيمية ومحوّها كلها، والعودة بالعقل إلى الحالة الاصلية بوصفه صفحة بيضاء table rase، لكن، أي أنسان عاديّ سويّ [يمتثل في سلوكه امتثالاً كليًّا للمعايير والقواعد والقوانين السائدة في محيطه أو بيئته الخاصة]، هذا الذي يمكن أن يُشكّك في أي من قناعاته، إذا كانت الحُجَج التي تدعوه للشكّ فيها ليست بأكثر جديّة من وجهة نظره التي تتعارض معها هذه الحُجَج نفسها؟ فمن أجل تقويض أي أعتقاد [من الاعتقادات التي تشير إلى الاعتراف بحقائق معينة وقبولها وتأييدها بشكل غير تام وغير كامل، من قبل مجموعة إرادات بشرية تتفق عليها داخل ثقافة جماعة معينة، وفي زمن محدد]، يلزمنا، كما هو الحال مع آلة رافعة تنقل الأحمال الثقيلة، نقطة ارتكاز أكثر صلابة وقوة بكثير من المسألة التي هي في موضع زعزعة وتقويض. فلا أحد أبداً يضع، بشكل جديّ فعلاً، كلّ آرائه في موضع تشكيك، وذلك لأن بعض هذه الآراء يشكل دعامة [سيمانطيقية ومعجمية وصرفية ونحوية] للبعض الأخر بطريقة تجعلهما يبرهنان على الصحة العقلانية والمنطقية لكليهما على نحو متبادل، فنحتفظ بتلك الآراء التي لديها قدرة أفضل في مقاومة أي اختبار حتى الوقت الحاضر، وهذا لا يضمن لها إطلاقاً ألا تكون بمنأى عن أي اختبار لاحق. إذ في حين أنه في الأنظمة الميتافيزيقية الإطلاقيّة، يكون العقل مراوحاً من الشكّ المطلق إلى اليقين المطلق، فإننا، في واقعنا الماديّ، دائماً ما نقف في منتصف هذين الطرفين، لأن الآراء التي نؤيدها، إنما هي تمثل أحدث حالة في تطور شكل محتوى افكارنا [على مستوى البناء المنطقي-سيمانطيقي ضمن سلسلة حالات états متتابعة، تليها عدة تحولات، تجريها قواعد ميتا-لغوية تصوغ بنية نموذج الما ينبغي القيام به على المستوى الشكلي للتعبير اللغوي، وبصورة تتلاءم مع علاقات تأسيسية متبادلة بين موضوع واشياء واقوال أنجازية تعبر عن هذه التحولات، وتشيّد لمجموعة وقائع لغوية faits linguistiques]، وهذا لا يعني بالضرورة إنها حالة ثابتة بصورة نهائية، لكننا لن نتخلَّى عن هذه الأفكار بطريقة معقولة تنسجم مع العقل العملي الحِجاجي، ما لم يتبين انها أفكار غير متوافقة incompatibles أو غير منسجمة مع أفكار  أخرى نمنحها مصداقية أعلى. إن دعوتنا إلى محوّ ماضي تكويننا وتشكيلنا المعرفي والادراكي/أو الثقافي، هي دعوة تتعارض مع مبدأ القصور الذاتي inertie – [المشابه لمبدأ القصور السيكولوجي والاجتماعي الذي يمكننا من الاعتماد على ما هو قبلي سابق معياري سويّ؛ مألوف؛ واقع؛ راهنيّ، ومن اعلاء قيمته وتعزيزها، سواء كان يمثل وضعية قائمة؛ أو رأي مسلَّم به أو حالة تطور مستمرة ومنتظمة] – فهو مبدأ يُنشئ، في الواقع، حياتنا العقلية والذهنية، تماماً مثلما يؤسس تنظيماتنا السياسية والاجتماعية. ويتمظهر معنى هذا القانون الفيزيائي في القصور الذاتي من خلال الصيغة الشكلية لقاعدة العدالة [والداعية الى وجوب معالجة القضايا المتشابهة إلى حد كبير بنفس الطريقة تماماً، حسب مبدأ قياس الغائب على الشاهد]، وهو يصوغ دلالته على وجه الخصوص من خلال المطابقة مع السوابق القضائية وبالشكل الذي يضمن الاستمرارية والاتّصال والثبات continuité والتماسك والاتساق لطريقة تفكيرنا وإنتاج أفعالنا. ويمكننا صياغة مبدأ القصور الذاتي كالتالي: لا ينبغي تغيير أي شيء من دون سبب. وبالنظر إلى ذلك، إذا كنا نزعم أنه ليس لأفكارنا؛ قواعدنا وسلوكياتنا أي أساس مطلق ممكن أن تستند إليه ابنيتها المفاهيمية، وإنه لذلك تكون الحُجَج التي تقع لصالحها وضدها ذات قيمة واحدة ومتساوية، وإنه ينبغي علينا، في حقل الفلسفة، أن نقوم باستبعاد آرائنا أو اعتقاداتنا أو قناعاتنا المكوِّنة لأحكامنا القيمية ومحوّها مع ماضينا تماماً، والعودة بالعقل إلى الحالة الاصلية بوصفه صفحة بيضاء table rase، فإننا نعبر  بذلك عن مطمح طوباوي لا يمكننا التطابق مع نموذجه المُعطى إلا في الخيّال. صحيح أنه حتى الفيلسوف ديكارت، خلال عرضه لعلم الأخلاق الآنية في كتابه (خطاب المنهج)، قد توخى أكبر قدر من النزعة الواقعية réalisme [التي تقوم على الفكرة القائلة إن الما هو صادق وحقيقي، والما هو موجود يمكن أن يكون مستقلاً بدرجات متفاوتة عن تشكيل اعتقاداتنا الأكثر تبريراً، وعن تكوين حالاتنا الذهنية والعقلية والسيكولوجية]، ولكن هل من الضروري، لبناء العلم والفلسفة، تبني مبادئ متعارضة تماماً مع تلك التي تكون مفيدة في تحفيزنا على انتاج أفعال مؤثرة في الممارسة الحياتية، «[أي أفعال الكلام الأنجازية المؤِثرة على المستوى السيميوطيقي لبلاغة الخطاب وبالطريقة التي تعيد فحص واختبار البعد المعياري والايتيقي للغة، باعتبار أن الحقيقة لم تعد تشير إلى مجرد مطابقة مع ما هو متعارف عليه لحالة الأشياء كما هي، بل إن الحقيقة هي فعل إنجازي أولاً وقبل كلّ شيء، وإن اللغة لم تعد محض توصيف عيني "بشكل موضوعي" حسب تعبير الفيلسوف إدموند هوسرل، بل إنها تتمظهر بوصفها أفعال من واقع نطقنا لتعبيرات القول اللغوية شفاهياً أو كتابياً، بمعنى إننا بقولنا لشيء ما، نقوم بعمل شيء ما له علاقة متداخلة وإشكالية مع بنية طوبولوجيا العلاقات الخطابية وهرمياتها المترابطة مع بعضها البعض داخل ممارسات حياتنا اليومية]»؟ وعلى العكس، نحن نعتقد إن مجمل افكارنا (بما إن استخدام العنف من حيث المبدأ، وحسب التقليد العقلاني الرسمي، قد تمّ استبعاده) هي الأخرى تتعرض إثناء تكوينها على المستوى الإدراكي والمعرفي داخلياً إلى عملية تحول [على مستوى التشكل المنطقي-سيمانطيقي-سيميوطيقي تبعاً للتقنيات الاستدلالية المعتمدة في الخطاب الحِجاجي الخاص بالمحيط الثقافي لكل جماعة معينة]، تماماً كما هو الحال في عملية تشكيل نظام المفاهيم والمبادئ القانونية، فهذا النظام، ومن أجل أن يؤدي عمله جيداً وبصورة تستجيب لقضايا وتطلعات جديدة، يتخذ الإجراءات التشريعية اللازمة لإصلاح مواد قانونية سابقة والتخفيف من حِدّتها وصرامتها.  

هناك اعتراض أخر على النزعة الإطلاقيّة ينشأ عن مفهومنا نفسه للمعرفة على إنها مجموعة افتراضات/جُمل/أقوال propositions ترتبط وحداتها اللغوية بصورة نسقية [فيما بينها بسلسلة روابط منطقي-سيمانطيقية تسلط الضوء على أوجه التشابه التي تجعل معناها موحّداً، وعلى أوجه الاختلاف التي تجعل معناها متعارضاً، وهذا ما يجعل كلّ عنصر منها يستند على الأخر وبشكل متبادل]. فهذا التصور لا يتوافق مع فرضية وجود معيار مطلق للمعرفة والذي، لإنه مطلق، فهو يتعلّق فقط بافتراضات منعزلة ومنفصلة، حيث تكون جميع العناصر فيها واضحة بذاتها ولا تعتمد في وجودها على أي عنصر أخر، حالها في ذلك حال الجواهر.   

إن العلوم ذات الطابع الشكلاني [والتوجه العلمي التي تسعى إلى تدوين النظريات بنظام لغوي شكلي يفترض وجود نظرية مصاغة مسبقاً تتضمن على مجموعة مفاهيم وبديهيات كليَّة لا تخضع للبرهنة ويتم الاعتراف بها على إنها تُعرِّف هوية بعضها البعض بصورة متبادلة ومبرهن على صحتها النظرية التجريدية وصحتها الإسنادية، وبما يضمن تشكيل بنية من العلاقات الإلزامية الضرورية في تعريف هويّة موضوعات التفكير/ والأدراك/ والمعرفة/ والاستدلال، وعلى نحو يؤدي إلى اختزال عملية تشكيل المعارف وتكوينها وصياغتها من الناحية المفاهيمية والمنهجية في ابنية شكلية تجريدية، وعزل هذه المعارف عن سياقاتها التاريخية ومعالجتها بصورة مجردة داخل عملية استدلالية تتم بطريقة متطابقة كلياً مع قواعد الحِجاج البرهاني وصيغ الاقيسة المنطقية الدقيقة الصارمة، كما هو الحال في العلوم الرياضية على سبيل المثال لا الحصر]، إنما هي علوم تنشأ فيها خاصية وضوح الاقوال واحادية معناها من قرار راجِع إلى المنهج [المعتمد والذي هو عبارة عن سلسلة عمليات لغوية استدلالية يتم اعدادها وتصميمها مقدماً حسب قواعد ميتا-لغوية تصوغ بنية نموذج الما ينبغي القيام به على المستوى الشكلي في إنتاج التعبير اللغوي للخطاب ضمن أطره الزماكانية، ولها توجه أيديولوجي لضبط القيّم المستعملة داخل نظام علاقات منطقي-سيمانطيقي يهدف إلى وصف الافتراضات/ أو الجُمل/ أو الأقوال بطريقة تستوفي الشروط العلمية من حيث التطابق مع مجموعة مفاهيم؛ وفئات؛ وأصناف، أي مع نماذج مثالية متكاملة تنتج ما يسمى بـ "قول نموذجي" énoncé modal يستطيع التحكم وبشكل مفرط في تعيين هويّة كلّ "الاقوال الوصفية" énoncés descriptifs، التي يحيط بها أي فاعل يدرك الأشياء كموضوعات للمعرفة في ضوء تلك القواعد الميتا-لغوية، ويجب عليه استعمالها ومزاولة مفاعيلها المؤثرة داخل الممارسات الخطابية، وتنفيذها طبقاً لتلك العمليات الاستدلالية المشيدة مسبقاً]، وهذا القرار المنهجي décision méthodique يقضي بألا يتم استعمال العلامات signes سوى داخل سياق [لغوي-سيمانطيقي] معرَّف هويّته ومحددة بوضوح تام؛ حيث يجوز فقط صياغة مجموعة تركيبات محدودة لعلاقات combinaisons [قائمة بين عناصر بسيطة لتشكيل مراتب هرمية تتضمن على وحدات لغوية سينتاكسية-سيمانطيقية]؛ وحيث يكون قد تمّ مسبقاً تحديد هويّة طوبولوجيا العلاقات الإلزامية في تشكيل وتنظيم بنية structure الجُمل/أو الاقوال التي لها معنى، وحيث يكون قد تمّ مقدماً إحصاء وضبط عدد البديهيات، أي الاقوال التي لا نتناقش حول صحتها validité [على المستوى الإسنادي لأفعال وصفات معينة للفاعل، وصحتها النظرية والمتعلقة بمدى مطابقة صيغتها مع القوالب الشكلية]. إن نظام système [العلاقات اللغوية المنطقي-سيمانطيقية] ذات الطابع الشكلاني، وعلى طول مسار عملية صياغة مفاهيمه وتشكيل علاماتها، لا يطرح المشكلات المتعلقة بالاختيار والقرار، بخلاف تلك المسائل التي يكون فيها قادراً على حلّها وفق صيغ شكلية تجريدية، فليس علينا أن نحُكم بشأنها ولا أن نقدم تبريرات حُكمنا عليها، إذ يكفي أن نتثبّت من قيمة الصدق أو الكذب لعبارة معينة حسب مطابقتها أو عدم مطابقتها للقالب الشكلي؛ حتى نقوم بتقدير الحلّ واحتساب النتيجة. وقد كان بعض الفلاسفة العقلانيين، مثل غوتفريد ليبنتز، يريد القضاء على أي مشكلة تثير مسألة الحُكم وبما يعود لصالح المبرهنات والعمليات الحسابية، لكن هذا يشترط أنه يمكن دائماً استبدال صيغ النموذج الرياضي [باعتباره شكل مثالي؛ مجرد؛ كامل؛ موجود قبلياً، ويزعم أنه يمثل ويعاين مجموعة معطاة من الوقائع السيميوطيقية] محلّ المشكلات المادية الملموسة التي يطرحها وجودنا في العالم. وإذا كان بمقدور هذا النموذج أن يزودنا، بالفعل، في العديد من الحالات، بتقدير قيمة عددية تقريبية كافية لما هو عينيّ محسوس، وإذا كان من الضروري الاستفادة منه، دون تردد، في جميع المجالات التي يمكن أن يكون استخدامه فعالاً، لأننا يمكن أن نتفق بشأنها حول ما هو مهم وما يمكن التغاضي عنه، فإن جميع المشكلات الإنسانية [باعتبارها موضوعات سيميوطيقية يتعذر إدراكها ومعرفتها إلا في ضوء علاقاتها المتبادلة مع موضوعات سيميوطيقية أخرى]، تبقى بعيدة كلّ البعد عن الاتسام بتلك الخاصية الرياضية. لقد أعتقد ليبنتز أن العقل البشري هو بالنسبة للعقل الربّانيّ كما يكون المتناهي بالنسبة لغير المتناهي، وبما إنه عند الإله العلم بالحلّ الصائب والعادل لأي مشكلة، يجب علينا تطوير مهاراتنا التحليلية وبالشكل الذي يجعلنا نقترب قدر الإمكان، من خلال العمليات الحسابية، من تلك الحلول التي يحيط بها الربّ مباشرة، لهذا، يمكن للآلات أن تزودنا بالنتيجة التي من أجل التوصل إليها، نحن اليوم بحاجة إلى قاضٍ أو مُحكِّم. لكن النموذج المثالي للفيلسوف ليبنتز  في بناء نظام لغوي رياضيّ كليّ يواجه مشكلات يلفت انتباهنا إليها القانون.

إنها لنادرة تلك الحالات التي يمكن فيها للآلات النطق بقانون يحقق العدالة، بدلاً عن القضاة، لأنه في كلّ مرة تنشأ مشكلة تطبيق أحكام قانونية على حالات ذات شروط وسياقات جديدة – وهل يمكن أن تكون آلة اوتوماتيكية قادرة على ملاحظة وتحديد متى تكون الحالة جديدة وكيف يكون ذلك؟– إذ إن هناك حاجة ضرورية لتقديم تأويل لتعابير واردة في الأحكام القانونية، وهي تعابير  termes [سيميوطيقية تمثل نقطة التقاء شبكة علاقات لغوية في ضوء ما تمثله من دعامة لإسناد dénomination أسماء/قيّم لأشياء، إما لغرض التصنيف classification أو التعريف définition، ويكون هذا الإسناد إما طبيعي naturelle يُنقش ويتثبت داخل ممارسات الخطابات اليومية؛ أو إسناد لغوي صُنعي artificielle علمي ينحدر عن صيغ شكلتها قواعد ميتالغوية-سيمانطيقية métalangage sémantique تختص ببناء دلالات تجريدية لغرض وصف الأشياء وشرحها، ويتولّد عنه مجموعة مرجعيات دلالية لعوالم سيميوطيقية دقيقة ومتناهية في الصغر micro-univers تنتج خطابات discours متنوعة ومستقلة تقريباً، وهنا، تشير السيميوطيقيا sémiotique، أولا- إلى بنية تحتية لمرجعيات دلالية حيث يتم فيها صياغة وتطوير سلسلة تحولات إجرائية تحدث في البنية الفوقية للمجال السيمانطيقي الشكلي، إما على مستوى القول والمنطوق للتعبيرات الدلالية طبيعية كانت أو صُنعية؛ وإما على مستوى بناء، وحسب مقاييس قواعد اللغة العلمية النظرية، نماذج modèle مثالية وقبلية كاملة تزعم أنها تأخذ بالاعتبار مجمل الوقائع السيميوطيقية المعطاة؛ وإما على مستوى الاختيار لأنظمة تمثُلٍ représentation لغوية منطقية-سيمانطيقية من شأنها أن تتحكم بالمستوى الوصفي descriptif المنهجي أي بصيغ البناء الميتالغوي-السيمانطيقي. ثانياً- تشير السيميوطيقيا إلى محل ضبط ومراقبة سواء لحالة التجانس بين خصائص الوحدات أو العناصر اللغوية المشيدة ومدى مطابقتها لقواعد الوصف العلمي الدقيقة الصارمة؛ أو لحالة التماسك والاتساق بين التعبيرات الدلالية المستخدمة مع نماذجها المثالية، ومع هيكل البديهيات axiomatique الذي يتيح بناء نظرية بواسطة نهج استنباطي، وهو هيكل بنيوي يشير إلى مجموعة من المفاهيم والمبادئ التي لا تخضع لتعريفٍ، وإلى مجموعة عبارات لا تخضع للبرهنة يتم الاعتراف بها على إنها تُعرِّف هوية بعضها البعض بصورة متبادلة ومبرهن على صحتها النظرية التجريدية وصحتها الإسنادية، وهذا يتم وفق قرار يُعتبر حسب بنية العلاقات المنطقية-السيمانطيقية المفترضة أو المشيدة مسبقاً لتلك البديهيات، على إنه قرار اختياري غير إلزامي arbitraire يقبل المراجعة وإعادة الاختبار لمفاعيله المؤثِرة، وإنه ضروري إلزامي nécessaire، في الوقت نفسه، في ضوء الحاجة التوافقية التي فرضتها طرق الاستدلال والتأويل الخاصة بكل مجموعة أو جماعة تتداول لغة بعينها]، وعليه، إن تلك الحاجة لتقديم تأويل لمثل هكذا تعابير واردة في الأحكام القانونية، أي لتعريفها وتوضيح معناها بطريقة دقيقة لا تحتمل اللبس والابهام، إنما تعني أن هذه الأحكام القانونية لم تكن ذات تطبيق واضح؛ بديهي؛ يقيني لا يقبل النقاش والجدل، وأن أحد تعابير هذه الأحكام لم يكن واضحاً بصورة كاملة. إننا نعتقد بوجود مبدأ واضح وتطبيق بديهي له، عندما لا نتوقع حدوث حالات يمكن أن يكون تطبيقه فيها مثيراً للجدال على نحوٍ معقول يتوافق مع العقل الحِجاجي العملي. لكن وُثُوقنا [المتعلق بسمة وضوح مبادئ ونصوص معينة غير المنفصل عن أساليبنا في التفكير/ أو الاستدلال حسب نظام علامات قبلي يشترط خاصية أحادية المعنى للكلمات والاشياء وعدم خضوعها سوى لتفسير واحد univocité]، ربما هو وُثُوق لا يعبر عن معرفةٍ بقدر ما يعبر عن فقر في قدرتنا على التخيّل. وقد سبق وان أشار الفيلسوف جون لوك، في كتابه «مقال في الفهم الإنساني»، إلى أن هناك فقرات من الكتاب المقدّس أو بنود لمدونة قانونية، والتي بدت للوهلة الأولى واضحة للناس العاديين غير المتعلمين، قد أكتنفها الغموض فيما بعد، نتيجة استشارتهم لتفسيرات الشرَّاح والمعلقين.

وحتى متْن النصّ الذي يبدو واضحاً بالنسبة للشرَّاح في الوقت الحاضر، قد يتوقف عن كونه كذلك في ظل ظروفٍ تدفع نحو  تأويل المصطلحات القانونية بطرق تخرج عما هو متآلف عليه ومعمول به في السابق. ولقد أشرت، في موضع أخر[8]، إلى متْن النصّ، الذي يبدو واضحاً تماماً، والمتعلق بالمادة القانونية رقم 617 من المدونة المدنية البلجيكية، وهو يؤكد على أن حقّ الانتفاع ينقضي بالوفاة الطبيعي للمُنتفِع. لكن، تُرى هل سيبقى الجميع متفقاً حول تفسير متْن هذا النصّ، لو كانت التقنيات العلمية الجديدة قد جعلت من الممكن إطالة أَمَد الحياة البشرية وابقائها في حالة سُبات غير متناه؟ قد يلجأ البعض إلى التذكير بإنها ظروف غير متوقعة [وخارجة عن إرادة الأطراف جميعاً، ولا يمكن توقعها، مستندين إلى النظرية القانونية في عدم القدرة على التنبؤ بما هو غير متوقع imprévision والتي تسمح بإعادة مراجعة مادة قانونية مثيرة للجدل، وإيجاد تطبيق لها يتناسب والظروف المستجدة]، وهدفهم من ذلك هو العثور لمتْن النصّ، في حال عدم وجود تعديل تشريعي، على تفسير  مستمد من فلسفة علم القانون jurisprudence، [والتي تنبني فيها قرارات المحاكم على سوابق قضائية ونصوص أخرى بالإضافة إلى المبادئ العامة الأساسية في القانون، مع ضرورة استيفاء هذه القرارات لمعايير التكرار بمرور الزمن؛ وتشابه الحلول التي يحيل إليها قرار المحكمة، وبما يضمن الانتقال بالمادة القانونية من النظرية المجردة إلى التطبيق الملموس]، لأنه تفسير من شأنه أن يجعل متْن ذلك النصّ متسقاً مع الهدف من حقّ الانتفاع. عندئذ، سيتوقف متْن النصّ، الواضح تماماً اليوم، عن أن يكون كذلك، وسنشهد حالة من نزاع عنيف بين تأويلات متباينة، يدافع بعضها عن ولائه للمعنى الحرفيّ lettre في صيغة متْن النصّ القانوني، وتعود الأخرى لمعارضته مع روح التشييد المؤسسي esprit لمتْن النصّ القانوني، أي الهدف من سنّه وتشريعه. حينئذ، سنلاحظ [كيف إن سلسلة من التحولات الإجرائية على المستوى اللغوي المنطقي-السيمانطيقي-السيميوطيقي] ستكون في موضع اشتغال نتيجة ذلك الصراع، التقليدي في مجال القانون كما هو الحال في جميع المؤسسات البشرية، والحاصل بين نزعة شكلية formalisme تتمثل في الولاء للقاعدة والتقليد [بناءًا على الزعم القائل بوجوب الإعلاء من الحقيقة vérité التي تتسم أنها لا تنطوي على تناقض؛ ويتم بثها وتلقيها في عبارات صادقة بطريقة صائبة مطابقة لنماذج صيغ شكلية مثالية، والدفاع عنها مهما كانت العواقب، لأنها تحمل قيمة مطلقة ومستقلة عن هذه العواقب نفسها]، وبين نزعة براغماتية pragmatisme تتطلب أن ننظر بعين الاعتبار، قبل كلّ شيء، إلى النتائج أو الآثار أو العواقب conséquences [المفيدة أو الضارة] والتي تنجم عن تأويل متْن النصّ بطريقة أو بأخرى [وتؤدي إلى احداث انتقالٍ للقيمة من السبب إلى النتيجة وبالعكس؛ وانتقالٍ من نظام ابستمولوجي لإنتاج القيّم يشتغل على تنظيم العلاقات اللغوية السينتاكسية والسيمانطيقية تبعاً لمدى مطابقتها مع القواعد النحوية، إلى نظام ابستمولوجي أخر].

وهذه الجدلية بين نزعة شكلية ونزعة براغماتية، إنما هي تكون في موضع اشتغال فعّال باستمرار على طول مسار تشكيل الخطاب القانوني [الذي يتراوح بين مجال سيمانطيقي sémantique شكلي حيث يتم تشييد المعنى، بالاستناد إلى قواعد ميتا-لغوية وصفية تزعم توفرها على الشروط العلمية التي تؤهلها لإنتاج تمثلات لدلالات كليَّة غير قابلة للتعريف، سواء كانت مفاهيم؛ مبادئ، أو فئات ومقولات، وبين ما يتوّلد عنها من مجموعة عوالم سيميوطيقية sémiotique دقيقة ومتناهية في الصغر تتشكل منها أنظمة الأحكام والقيّم والمعايير]، (بحيث يتمظهر المحتوى السيميوطيقي لتلك الجدلية في المجال السيمانطيقي للخطاب القانوني، على وجه الخصوص، عبر ذلك التوتر الحاصل بين نزوع نحو تطبيق مبدأ اليقين القضائي  certitude juridique [والذي يقتضي ان يكون القانون مصاغاً، من قبل المشرِّع، بشكل يتسم بالوضوح والدقة والثبات؛ وأن يطبقه القاضي بشكل حرفيّ سليم وفقاً للقوانين التشريعية السائدة، وذلك بهدف توفير الأمان للمتقاضين لدى المؤسسة القضائية، وحماية الافراد الخاضعين له، من العواقب القانونية الضارة التي تنجم، بالأخص، من التناقضات أو التعقيد في مُتُون النصوص القانونية أو من تغيراتها المتكررة بإفراط]؛ ونزوع أخر نحو تطبيق مبدأ الإنصاف équité [والذي يعبر عن اتجاه إلى التعامل بطريقة متكافئة للغاية مع مجمل الموجودات التي تشكل جزءًا من فئة أساسية واحدة. ويقع ذلك التوتر ، على وجه التحديد، بين المفاعيل المؤثرة التي تنتج عن امتداد extension الدلالة الكليَّة لهذين المبدأين من مجالها السيمانطيقي، إلى عموم الأشياء السيميوطيقية، المثالية منها أو الموجودة في الواقع، والتي ينطبق عليها عنصر من عناصر المعرفة، سواء كان يشير إلى مفهوم يدل على أفكار قابلة لتنظيم معطيات التجربة أو  كان يشير إلى عبارات تدل على فئات أو أصناف classe ميتالغوية وصفية؛ متمركزة على ذاتها ومكتفية بنفسها])، وما كان يتسنى لتلك الجدلية بين نزعة شكلية ونزعة براغماتية أن تتحقّق إلا لأن مراعاة المعنى الحرفيّ لمتْن النصّ وأشكال صياغته، هي لا تشكل قيمة مطلقة ولا رأياً تفضيلياً مشيّد مسبّقاً، أي ليست بتحيّز، يخلو من أي أهمية تذكر. ولو كان قد تمّ النظر إلى متْن النصّ القانوني على أنه واضح بصورة كاملة؛ وأنه غير قابل سوى لتفسير واحد، أي لا يجوز تغييره ولا تحويره ne varietur، مهما كانت الظروف، لما كان من الممكن أن يؤخذ بعين الاعتبار أي دافع motivation [يتسم بنظام سيميوطيقي عملي؛ حِجاجي] ذي طابع براغماتي، ولبقي حال القوانين على ما هو عليه. لكن، إذا كانت العواقب [المفيدة أو الضارة] وحدها هي التي يجب ان توضع بعين الأهمية عند تفسير متْن النصّ، وإذا تُركت الحرية الكاملة، في هذا المجال، للقاضي، فإن دور المشرِّع، وهو عنصر أساسي في عملية الفصل بين السلطات، سوف يتم تقويضه تدريجياً، وسوف يتم التعويل، في الدولة، فقط على أولئك القضاة الذين يتمتعون بسلطة مطلقة لا كابح لها في صناعة القرار، وقبل كلّ شيء على أصحاب السلطة التنفيذية الذين لديهم صلاحية تعيين القضاة أنفسهم وعزلهم على المدى القصير.

في الوقت الحالي، يعتمد توزيع الصلاحيات بين المشرِّع والقاضي، من جهة، على  المشرِّع الذي يكون قادراً على صياغة قوانين تمتاز بدقة المعنى ووضوحه الذي لا يحتمل اللبس بدرجات متباينة، وعلى وضع حدود للعمل القضائي تتسم بطابع الصرامة بقدر متفاوت، ويتوقف، من جهة أخرى، على التصور القائل إن للسلطة القضائية، لا سيما للمحكمة العليا، دور ورسالة عليها النهوض بهما. لكن، إلى أي حدٍّ يكون فيه القضاة همّ مكلفون فقط بتطبيق القانون، أو همّ، فيه، كذلك، مسؤولون عن المساهمة في استحداثه وتطويره؟ وإلى أي حدٍّ يكونون همّ فيه متقيِّدون بنظام قانوني ordre juridique أوليّ مسبّق [والذي يعبر عن مجموعة من القواعد (دستور؛ قوانين، ولوائح إدارية) يتم صياغتها، في دولة معينة وفي فترة محددة، لتعيين الوضع الشرعي العام والخاص للأفراد، وتحديد الروابط القانونية العامة والخاصة للأفراد. إنه نظام يشيد لتسلسل عقلاني متتابع ومنتظم بشكل صارم ودقيق ومُحكم لمجموعة من المصطلحات والتعريفات متبادلة الدلالة فيما بينها، ويشكل نقطة انطلاق رئيسية يمكن أن تستخدم من قبل القضاة في تقديم تفسير منطقي-سيمانطيقي للحُكم بشأن ظاهرة قانونية متكررة بمرور الوقت]؟ على النحو التالي، تتمظهر، في القانون، جدلية العقل والإرادة؛ الواقع والقيمة، حيث يشكل العقل والواقع القطب الموضوعي objectif الذي يجب أن يأخذه القاضي بعين الاعتبار وأن يمتثل له، وحيث تمدنا فيها الإرادة والقيمة بالقطب الذاتي subjectif الذي يعتمد، في النهاية، على قرار القاضي.   

كلما كان النظام القانوني الذي يضعه المشرِّع أكثر دقة وصرامة ووضوحاً في المعنى، زاد، بالتأكيد، اتساقه، على نحو فعليّ، مع النظام السياسي والاجتماعي الذي يجب أن يطبق عليه، وكلما جرى اختزال دور القاضي في مجرد تطبيق لمتْن النصّ القانوني، تضاءل حجم مساهمته في استحداث وتطوير الخطاب التشريعي للقانون. لكن ماذا إذا لم تتمّ صياغة مُتُون النصوص بدقة مُحكمة، أو إذا لم تعد متسقة أو متطابقة مع النظام السياسي والاجتماعي القائم، فإننا، عندئذ، سنشهد صعود أولوية النزوع البراغماتي [الذي يضع بعين الاعتبار النتائج أو الآثار أو العواقب المفيدة أو الضارة التي تنجم عن تأويل متْن النصّ بطريقة أو بأخرى]، أي انتصار روح التشييد المؤسسي لمَتْن النصّ على معناه الحرفيّ. هكذا، فإن نظام الديمقراطية الشعبية في بولندا، بدلاً من أن يُبطل، عند تأسيسه، جميع التشريعات السابقة بلا قيد أو شرط، والذي كان سيخلق حالة من الفوضى والفراغ القانوني يصعب تحملها، ألغى عددًا قليلاً من أحكام القانون العام، وبالنسبة للبقية، فقد وضع بعض القواعد الدستورية التي تشير إلى الأهداف المرجوة للنظام ومؤسساته، وتفسح المجال للقضاة بإهمال أو إعادة تفسير مُتُون النصوص القانونية للعصر الرأسمالي بأقصى قدر من الحرية. ومن خلال تأكيدهم الواضح على أسبقية الهدف النهائي من مُتُون النصوص على الولاء لمعناها الحرفيّ، قرر قادة الديمقراطية الشعبية البولندية –على الفور، ريثما يتمّ استبدال جميع التشريعات السارية– تكليف قضاة النظام الجديد بمهمة تكييف مُتُون النصوص القانونية القديمة مع الروح الاشتراكية الجديدة، حتى تلك الأكثر تعارضاً مع تطلعاتها. علماً إنه، في هذه الاثناء، قد  غاب مبدأ اليقين القانوني، لأن القاضي الذي لم يعد مسؤولاً فقط عن تطبيق مَتْن النصّ القانوني، ولكن عن تقديم تفسير لهذا المَتْن طبقاً لتوجيهيات إدارية ودستورية عامة، قد أصبح، بذلك، يقوم بدور سياسي أكثر منه قانوني. هذا الوضع الذي يمثل، في الواقع، مرحلة استثنائية وانتقالية في أي مجتمع حديث ذي مؤسسات منظّمة، ما هو إلا إغراق في دور تؤديه السلطة القضائية، في أي نظام قانوني، بطريقة متباينة تبعاً لدقة النصوص ومدى مطابقتها لهذا النظام. والعائق أخر، في هذا الصدد، إنما يتمثل في الاستعاضة عن القضاة بآلات الكترونية سيزودها المشرِّع بالبرمجة اللازمة، وبالتالي، فإن النظام القانوني، بجميع تفاصيله التي تمّ صياغتها على هذا النحو، سيقضي على أي إمكانية للقاضي في صناعة القرار والمساهمة في استحداث الخطاب القانوني وتطويره.     

إذن، تكشف لنا دراسة القانون عما يتحول، على صعيد الممارسة العملية، إلى سلطة في صناعة القرار من دون الاستناد إلى قواعد أوليّة، وعما يفترض مسبقاً إعداد قواعد من شأنها أن تمنع أي إمكانية/ أو مقدرة/ أو حقّ في صناعة القرار، ففي الحالة الأولى سيكون لدينا عَدْل بدون تشريعات قانونية، وفي الحالة الثانية سيكون لدينا تشريعات قانونية بدون قضاة. لكن، في مجال القانون، أي قاعدة قانونية جديدة إنما ترتكز على مجموعة مبادئ أكثر عمومية تحدد تعريف هويّة هذه القاعدة وتعيّن بنية [شكلها السيمانطيقي، ومحتواها السيميوطيقي]، وأي قرار قانوني إنما يتأسس على قاعدة معينة تبرره، لذلك، نحن نشهد جدلية مستمرة بين العقل والإرادة، بين هياكل أبنية structures شكلية تُثبِّت أُطر [التنظيم النحوي في وصف الأفعال البشرية دون أن تستوجب منا اتخاذ أي قرار مقدماً بشأن طبيعة هذا التنظيم وممارساته العملية]، وبين قرارات تحدد هويّة هذه الأُطر وتكيّفها، بل وتُدخل تعديلات عليها، إذا كانت أُطراً غير منسجمة مع القواعد أو اللوائح الأكثر سلامة من الناحية القانونية. فالعقل والإرادة لا يتمظهران [في شكل سيمانطيقي يحيل إلى مجرد محتوى سيميوطيقي طبيعي؛ قبلي متأصل] كما لو أنهما ثنائية لعنصرين أو واقعتين مستقلتين لا تقبل الاختزال، ولا أحد منهما يساهم في صياغة وتشكيل الأخر واستحداثه وتطويره بصورة متبادلة، بل إنهما، بالواقع الفعلي، في تفاعل بيّني متبادل مستمر. هكذا، يُعلمنا مجال الممارسة العملية للقانون ألا نسلَّم وألا نقبل بنزعة الفصل التام بين المَلَكَات أو القدرات البشرية. في المقابل، فأن النزعة الميتافيزيقية الإطلاقيّة، سواء كانت نزعة لا تأخذ بعين الاعتبار سوى المعطيات العقلية rationaliste أو تلك التي تضع أولوية للإرادة على الفكر التأملي volontariste، سواء كانت منشغلة بإقامة نظام عقلاني يلغي أي إمكانية في صنع القرار، أو بتقديم مبدأ إرادة كاملة لا توجد أي قاعدة أو لائحة تحكمها أو تقيّدها، فهي نزعة، لأنها تتجه نحو إقامة ثنائيات متعارضة بشكل كليّ؛ مطلق، وجذري dualisme radical [وذلك عبر نظامها المنطقي-السيمانطيقي الذي يصف، وبكل اتساق لغوي، أي مجال، بأنه يقوم على تعارض جوهري وكامل بين مراتب هرمية لثنائيات مبدأين؛ أو مفهومين؛ أو فئتين، أصليين؛ مستقلين؛ وغير منفصلين عن بعضهما، ولا يقبلان الاختزال لبعضهما البعض]، نلاحظ إنها تعقد مماثلات تشبيه، وبكل جَلَاء، للقياس على مجتمع بلا قضاة أو مشرِّعين.   

إن القانون باعتباره تخصص مستقل بمجموعة تقنيات [أو أساليبِ tekhnê حِجاجٍ بلاغية للتدبُّر prudence، على مستوى الابتكار الابستمولوجي épistêmê لقواعد الاستدلال الخطابية المستعملة في ممارساتنا الثقافية praxis، والتي هي لا تتعلّق فقط بحالات عمومية، بل لا بدّ لها أن تكتسب المعرفة من حالات منفردة، وبالشكل الذي يجعل حقل القانون ينتج مفاعيل خطابه التشريعي/السياسي المؤثِرة في الفضاء العام]، إنما هو تخصص يوجد فقط في المجتمعات التي تفسح –فيما بين الما يمكن حسابه أو احصائه والذي يقضي على أي إمكانية فردية في صناعة القرار؛ والما هو سياسي حيث ستكون القدرة/أو الحقّ/أو السلطة في صناعة القرار محتكرة على إرادة واحدة تتحرر تماماً من أي قيود قسرية تفرضها مُتُون النصوص، لكنها منفلتة وتخرج عن السيطرة في ظل عدم التوفر على هدف عقلاني يخدم المصلحة العامة، واقتصارها على خدمة مصالح فئة معينة –  المجال لإقامة نظام يُنشئ مؤسسات تسهم فيها إرادات بشرية متعددة وتتعاون بين بعضها البعض. لهذا السبب، فإنه، ومن خلال الدراسة بإمعان والتحليل بعناية لتقنيات الاستدلال القانونية المتعلقة بأصول المحاكمات وأساليب التأويل التي تسمح للبشرية بالعيش في دولة يسودها القانون (Rechtsstaat)، يمكن للفيلسوف، بدلاً من أن يحلُم بمجتمع فِرْدَوسي طوباوي، أن يستلهم، في تأملاته، مما علمته التجربة التاريخية الضاربة بالقدم، لأفراد كانوا مسؤولين عن انشاء مجتمع ذو قيّم معقولة تتوافق مع العقل العملي الحِجاجي، وعن تنظيمه على هذه الأرض.

[1] باحثة ومترجمة، من العراق، متخصصة في الدراسات الفلسفية والحِجاجية.

[2] هذا النصّ، هو، في الأصل، مساهمة قدمها ش. بيرلمان في معرض ردّه على تحقيق أجرته مجلة أرشيف فلسفة القانون، حول محور عددها السابع والمكرس عن سؤال: ما هي فلسفة القانون:

Chaïm Perelman, Réponse à l’enquête : Qu'est-ce que la philosophie du droit ? Archives de Philosophie du Droit. n° 7. Paris. 1962. p. 146.

[3] Cf. à propos des conceptions divergente s du positivisme juridique, l'excellent e étude de N. Bobbio sur le positivisme juridique : Mélanges, Paul ROUBIER, p. 53-73.

[4] Cf. dans ce sens, les Travaux du Centre National belge de Recherche s de logique, et spécialement le volume Le Fait et le Droit, Bruxelles, Bruylant, 1961.

[5] Chaïm Perelman, Ce qu’une réflexion sur le droit peut apporter au philosophe, Un article publié dans le son livre: Justice Et Raison, PUB, Bruxelles, 1963, pp. 244-255.

[6] كلّ النصوص الواردة بين الاقواس الكبيرة، تعود للمترجمة. وهي نصوص تمثل «تأويلات مابعدية» للبلاغة الجديدة، من جهة، ولمناهج التحليل السيميوطيقي للخطابات التشريعية والقانونية عند بيرلمان، من جهة أخرى. وقد تم الاقتباس من المصادر التالية:

Sémiotique : Dictionnaire raisonné de la théorie du langage. Algirdas Julien Greimas & Joseph Courtes, Paris, Classiques Hachette, 1979.

Nouveau dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Oswald Ducrot & Jean-Marie Schaeffer, Éditions du Seuil, 1972.

[7] P. Foriers, L’utopie et le droit, dans Actes du Colloque de l’Institut pour l’étude de la Renaissance et de l’Humanisme (Bruxelles, 1961) sur « Les Utopies à la Renaissance ».

[8] Cf. Ch. Perelman, Le fait et le droit. Le point de vue du logicien, in Dialectica, 1961, vol. 15, p. 609 ; publié également dans le volume Le fait et le droit, Bruxelles, Bruylants, 1961.

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة