المرأة والحدود نحو تجاوز النمطية

 

 

 

 

المرأة والحدود نحو تجاوز النمطية

أ.د مباركة بلحسن

مخبر الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات

جامعة وهرن2 محمد بن أحمد

يعتبر التدرج في المكانة الاجتماعية، حسب الطرح الفيبري، من أهم مظاهر المجتمع الحديث، مع أخذ تعدد أشكال المكانة بعين الاعتبار وعدم النظر إليها بشكل أحادي، لأنها تتغير. والدور الاجتماعي هو المظهر الديناميكي السلوكي للمكانة الاجتماعية، مما يجعلنا نفترض أن التغير الاجتماعي للأدوار يرافقه تغير ملموس في المكانة.

ومن مظاهر المجتمعات الحديثة، وهذا ما يهمنا، تباين الأدوار وتعددها لكلا الجنسين، لكن الملاحظ أن المكانة الاجتماعية للمرأة لا ترقى لنفس مستوى الأدوار الاجتماعية التي تقوم بها. بالرغم من أهمية أدوار المرأة وتعددها وفعاليتها، لم تشفع للنساء في تجاوز النمطية من حيث صورتهن الاجتماعية ومكانتهن.

وهذا لا يمنع، بالطبع، من التأكيد على الاعتراف الذي حظيت به النساء في السنوات الأخيرة نتيجة لتحول إجتماعي معتبر فيما يخص تقسيم العمل بين الجنسين، فلم تعد المرأة تكتفي بالدور التقليدي بل تقلدت عدة أدوار والتي كانت تقتصر على مجتمع الرجال فقط.

لكن بالرغم من إقتحام المرأة للفضاء العام بشكل متفاوت حسب خصوصية كل مجتمع وتقلدها لأدوار كانت تعتبر سابقا ذكورية محضة، إلا أنها لم تكتسب نفس القيمة الاجتماعية والهيبة والنفوذ الذي يحظى به الرجل مقابل نفس الوظائف والأدوار، بل بالعكس قد تفقد بعض الوظائف رمزيتها وقيمتها بمجرد تقلد المرأة لها (مناصب عليا، مضيفة، طباخة).

ننطلق هنا من إفتراض أساسي وهو أن مسألة "الحدود" بأبعادها الثقافية والاجتماعية هي المعضلة الأولى التي جعلت مكانة المرأة لا ترقى إلى مستوى الأدوار التي تقوم بها، وفي أغلب الحالات تضاعف، بعض الأدوار، من متاعب النساء وتكرس دونيتهن وتجعلهن عرضة للعنف الجسدي، الجنسي والنفسي بسبب الصور النمطية التي لم تتمكن من التخلص منها إلى يومنا هذا (الضعف، مكانها في المطبخ، الكيد والفتنة).

فبعد فرض سياسة الحجر الصحي المنزلي في الجزائر من طرف السلطات العليا للبلاد، كإجراء وقائي حين بدأت جائحة كورونا بالانتشار في بعض المدن بشكل ملحوظ في منتصف مارس، ظهرت بعض الصور والفيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لرجال بملابس أنثوية وهم يمارسون بعض المهام المنزلية كالطبخ وتحضير الخبز والتنظيف.  

 هذه الممارسات التي تظهر على أنها ترفيهية أو فكاهية ما هي إلاّ نوع من المقاومة الذكورية لوضع فرضته الأزمة الصحية لكوفيد-19 أين وجد الرجل نفسه ملزما على المكوث بالبيت لساعات طويلة، وهو ما لم يتعود عليه في حالة أزمات سابقة، فحتى في حالة الحروب كان الرجال يخرجون لجبهات القتال وتبقى النساء في البيوت.

هذه المقاومة التي قد تظهر في شكل هزلي وفكاهي أو في شكل عنف اتجاه الأبناء أو الزوجة، ما هي إلاّ دلالة على خوف بعض الرجال من فقدانهم بعضا من ملامحهم الجندرية، وهو ما جعل بعض الرجال يبحثون عن إستراتيجية تجعلهم قادرون على التأقلم مع هذا الوضع الجديد والفجائي، هذه الاستراتيجية التي تمكنهم من تحمل البقاء لوقت طويل في فضاء لطالما أعتبر فضاءا أنثويا بامتياز دون المساس بسلطتهم ومكانتهم وهيبتهم.

 بالرغم من أننا لا نزال تحت وطأة صدمة الوباء ولم نخرج من الأزمة الصحية بعد، إلاّ أن السؤال السوسيولوجي الأولي مشروع، كأن نتساءل عن درجة تأثير تجربة وباء كورونا وثقافة التباعد الجسدي والحجر الصحي المنزلي على العلاقة أنثى/ذكر وعن إمكانية تجاوز بعض الصور النمطية للمرأة أو بالعكس تكريسها وترسيخها بعد رجوع المرأة للمنزل وفصلها عن حياتها العملية والعلمية ولو بشكل مؤقت.

قد يتفاءل البعض من ظهور النساء، من طبيبات وممرضات، إلى جانب الرجال في الصفوف الأولى للجيش الأبيض الذي يواجه وباءا خطيرا ومبهما، فالمرأة في قطاع الصحة لم تستفد من قرار إعفاء أغلب النساء العاملات في قطاعات أخرى وإستفادتهم من عطلة إستثنائية مدفوعة الأجر، بل بالعكس اضطرت كل إمرأة تشتغل في قطاع الصحة للبقاء في المستشفيات لأسابيع أو أشهر للتكفل بمرضى كوفيد-19 بعد التزايد المخيف للمصابين في أغلب المدن الجزائرية.

من بين الحوادث التي أثرت في شريحة كبيرة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي فقدان الطبيبة الحامل، التي فقدناها وهي تواجه وباء كورونا رفقة الجيش الأبيض، فبينما أطلق الأغلبية هاشتاغ تضامن مع الطبيبة وأسرتها، فيما يخص ظروف وفاتها، تفاجأ البعض من تعليق لسيدة حول صور خاصة بالندوة الصحفية التي أجراها وزير الصحة من داخل غرفة الفقيدة، أين ركزت المعلقة على زجاج الخزانة الذي كان يظهر، في رأيها، متسخا وهو ما إعتبرته تهاونا من طرف شهيدة الواجب في قيامها بمهامها المنزلية، وكأنها تحاول بهذا النوع من التعليقات تأكيد الصور النمطية التي نذكّر بها النساء عادة حين ينجحن في مهام أخرى خارج فضاء المنزل. وهو ما أثار غضب واسع بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي.

فبالرغم من أهمية الأدوار التي تقوم بها المرأة وتعددها وفعاليتها، فلم تشفع لها في تجاوز النمطية من حيث صورتها الاجتماعية ومكانتها في مجتمع ذكوري خالص يحاول قدر الإمكان فرض حدود اجتماعية وثقافية على المرأة، إما من خلال عملية التنشئة الاجتماعية وما تحمله من نواهي وأوامر، أو من خلال تذكيرها بمهامها الأصلية وأدوارها التي عادة ما يتم ربطها بطبيعة المرأة الفيزيولوجية، العاطفية والنفسية.

وكمثال نشير لما جاءت به الباحثة التونسية آمال قرامي في كتابها "النساء والإرهاب : دراسة جندرية" حول الصور النمطية التي يقدمها عدد من الإعلاميين الأكاديميين بشأن علاقة النساء بالعنف السياسي، والتي تكون، في رأيها، في أغلب الحالات سطحية، ومتباينة أو متطابقة مع التمثلات الاجتماعية المهيمنة، فكانت أغلب أسباب مشاركة النساء في الأنشطة الإرهابية، التي أشارت لها الباحثات من المنظور الإعلامي والاجتماعي، تقتصر على الأمراض والاضطرابات الفيزيولوجية للمرأة، العاطفة، الانفعال، الضياع، مكانة المرأة في النظام الاجتماعي والرمزي، الرغبة في التحرر من الهيمنة الذكورية.

إن المجتمعات التي تعتبر دور المرأة فعال، تفرض "الحدود" التي لا يجب أن تتخطاها الإناث، واحترام الحدود، كما جاء في طرح فاطمة المرنيسي، يعني الطاعة، فالأنثى النموذج هي التي تحترم الحدود ولا تتجاوزها، أي الطاعة والخضوع لأوامر ونواهي الجماعة، بالرغم من أن البعض يرى أن خروج المرأة من فضائها الخاص والضيق إلى الفضاء العام كان بإرادة ذكورية، لكن بشرط عدم تجاوز الحدود التي رسمتها لها الجماعة كأنثى (اللباس، الاحتشام، الأوقات والأماكن، وظائف تلائمها كأنثى)، وهو ما يمكن إعتباره إنجازا مهما لا يمكن التغاضي عنه باعتباره توسعا للحدود التي فرضت على النساء في فترات تاريخية سابقة.

 إن المرأة في أغلب المجتمعات هي المرأة القادرة على إحترام الحدود، أي الطاعة والخضوع، فالمرأة المقبولة اجتماعيا أو الأنثى النموذج، إن صحّ التعبير، هي المرأة الخاضعة لأوامر الجماعة والمنظومة القيمية والمعيارية حتى وإن كانت ترفضها ولا تقبلها ضمنيا (المرأة الساكنة والثابتة).

وخضوع المرأة ليس راجعا للموروث الطبيعي والبيولوجي بل هو بسبب الموروث الثقافي عبر التنشئة الاجتماعية. وفي حالة المرأة فلقد تمّ تجنيد الطبيعة لخدمة الثقافة لإخضاع المرأة والتأكيد على دونيتها ونشر ثقافة التعصب الجنسي اتجاه النساء. ومن وجهة نظر بيار بورديو فإن القوة الخاصة لتبرير النظام الاجتماعي الذكوري إنما تأتيه من أنه يراكم ويكثف عمليتين : إنه يشرعن علاقة هيمنة من خلال تأصيلها في طبيعة بيولوجية هي نفسها بناء اجتماعي مطبّع.

فعملية التنميط وتقسيم الأدوار ثقافية اجتماعية في الأساس ف" الثقافة هي من لطفت الجنس اللطيف و خوشنت الجنس الخشن (سليم دولة، ص 43)."

أما الباحثة عزة شرارة بيضون فإنها ترى في مسألة التعصب الجنسي السبب الأساسي للمعضلات التي تواجهها المرأة في سبيل وصولها إلى مواقع القرار في مؤسسات المجتمع، والذي يتمثل في إتخاذ مواقف سلبية حيال النساء كجماعة، وحيال أدوارهن الاجتماعية والسمات الشخصية التي يتعيّن عليهن التحلّي بها (عزة شرارة بيضون، ص 180).

فنجد المرأة ملزمة على التفاوض وتحمل الضغوطات الاجتماعية بشتى أنواعها لتمكينها من تجاوز الحدود التي كانت تحرمها من التموقع والتواجد في الفضاء العام وهو ما من شأنه أن يعمق من متاعبها وشقائها.

والملاحظ للكم الهائل من النكت والحكايات الشعبية سيقف على صورة وتمثل المرأة ناقصة العقل والنكدية والشيطانية، وهو ما يصعب من تماثل المكانة الاجتماعية للنساء والأدوار الاجتماعية الأساسية التي يقمن بها وعدم تمتعهن بالهيبة والقيمة الاجتماعية التي يتمتع بها الرجال لنفس الأدوار بسبب التنميط الشائع لطبيعتهن والذي يرافق النساء حتى وهن يتقمصن أخطر المهام ذات الطابع السياسي والعنيف.

 

المراجع :

المرنيسي، فاطمة : أحلام النساء الحريم : حكايات طفولة في الحريم، ترجمة ميساء سرّي ومراجعة محمد المير أحمد، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1997.

بورديو، بيار : الهيمنة الذكورية، ترجمة سلمان قعراني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009.

شرارة بيضون، عزة : الرجولة وتغير أحوال النساء (دراسة ميدانية)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 2007.

قرامي، آمال، والعرفاوي، منية : النساء والإرهاب : دراسة جندرية، الطبعة الأولى، مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس، 2017.

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة