
صحافة اليوم:عندما تتجاوز الوسيلة الرسالة
المؤلف : الأستاذ سعيدات الحاج عيسى
المؤسسة: قسم الاعلام والاتصال، جامعة الأغواط
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث: مخبر سوسيولوجيا الاتصال الثقافي :القيم ،التمثلات ،الممارسات
كان الرئيس الأمريكي الأسبق توماس جيفرسون ( 1743 –1826) ،يعبر عن قناعة راسخة حينما قال :"ان وجود صحافة بدون حكومة عندي أفضل من وجود حكومة بلا صحافة "،لكن هذه القناعة تهتز اليوم على وقع لتحولات العميقة التي شهدها المشهد الإعلامي (بمكوناته وآلياته) خلال الثلاث عقود الأخيرة ،لقد تجاوزت الوسيلة - وبكثير الرسالة - وعصفت ميديا المنصات الالكترونية بسلطان الصحفي وجبروته ،لقد قضى "دمقرطة" التكنولوجيات المتاحة على احتكار القائمين على حراسة "البوابة الإعلامية" ..لم يعد الصحفي وحده هو مصدر المعلومات ،انها صحافة "اللحظة " ..صحافة الحركة "البرغوثية "لفأرة الكومبيوتر أو اصبع الديجيتال .
يذكر مؤرخو الصحافة في فرنسا سنة 1989 حينما تربع برنار بيفو B.Pivot على رأس سبر الآراء الشهير الذي أجرته لونوفال اوبسيفاتور على عينة امتدت على أكثر من نصف مليون مستجوب، حول سؤال واحد: من هي الشخصية التي تمثل السلطة الثقافية، فاز بيفو (المنشط التلفزيوني لبرنامج Apostrophe ) أمام أسماء مرعبة في عالم الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع ،من قبيل :ليفي ستراوس وادقار موران وبول ريكور ..وغيرهم، لقد تجلى عهد التلفزيون الذهبي وتكرست سطوة الصورة التلفزيونية كخطاب ثقافي وسياسي جديد تراجعت من أمامه "دوغمائية " الصحافة المكتوبة ،التي تم رميها في زاوية إعادة انتاج المعاني الاجتماعية لأزمة الفرد واندماجه مع الزمن الإعلاني الذي تجاوزه .
يقول نصر الدين العياضي في هذا الصدد:
إن جنوح وسائل الإعلام إلى تقديم صورة غير دقيقة عن العالم الذي نعيش فيه قد أدى إلى تراجع ثقة الجمهور فيها بنسب متفاوتة من مجتمع إلى آخر ، وتوجه هذا الأخير إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تلفح هي الأخرى في تقديم صورة متوازنة عما يجري في المجتمعات “،هذا إضافة إلى أن تكنولوجيا الاتصال الراهنة قد غيرت قواعد الإنتاج والتوزيع الإعلاميين التقليديين، فأصبح بإمكان أي شخص أن ينشر ما شاء من أخبار غير موثوق فيها خاصة وأن المنافسة بين المنصّات الرقميّة تشجع على التعجيل في نشر الأخبار أولا، ثمّ التحري عن صحتها مع مستخدميها وساهمت هذه الممارسة في تزايد الأخبار المزيفة التي تحدث بلبلة في صفوف المتابعين لمستجدات الأحداث التي يحمل بعضها قدرا كبيرا من القلق. *
ويختلف المجال (في مظاهره ومكوناته) بين الإعلام بوسائطه "التقليدية" من مكتوبة أو إذاعية أو تلفزيونية عنه في الإعلام الالكتروني على أكثر من صعيد، لعل عنصر التفاعلية هو أكثرها تحديدا واختصارا للفرق "المفاهيمي" والواقعي بين النسقين، حيث تطرح التفاعلية جملة من المواصفات تؤهلها لتطرح مشهدا إعلاميا جديدا على صعيد الوسيلة، لعل أهمها:
- ثنائية/تعدد، الاتجاه في العملية الاتصالية.
- تبادل/مشاركة/تصميم، الأدوار بين المرسل والمتلقي.
- الاقتراب/مجاورة/مشاركة، في التزامن قدر الإمكان بين المرسل والمتلقي في العملية الاتصالية.
- التأثير/التحوير/التحيين، في شكل ومضمون الرسالة.
لكن هذا النمط من الإعلام –وإن بدا جديدا تماما-بالنظر لحداثته النسبية داخل السياق المهني والاجتماعي الجزائري العام، غير أن استقطاباته اللافتة للانتباه على صعيد الاستخدام والاعتماد –كمصدر للمعلومة، هو الذي دفع بنا إلى محاولة نقل الاهتمام البحثي بمظاهره "aspects " إلى فضاء المعالجة العلمية، بعدما سبق لنا التطرق لبعض العناصر المرتبطة بذلك أمام الوسيلة الإعلامية الورقية المكتوبة المعتمد أساسا جماهيرية الاتصال. *
ان فضاء البحث في الوقت الحاضر يدعو الى المناداة ببراديغما جديدة وخطاب محايث، يتجاوز ثنائية ما فعلته الوسائل بالجمهور وما ينتظره الأخير منها، الى كيف يستطيع المستخدمون ضمان استمرار المكتسبات الانسانية ذاتها من الانجراف الكامل في أتون الصراع البشري المفتوح.
لقد سطت التقنية "الاستعمالية " على الزمن الاجتماعي وأحلت محله الزمن الإعلامي المتمدد ،وأخضعت مهنة الصحافة لتطبيقات "اللوغوس التقنوي"،ثم أنها هددت هامش الابداع ،عبر توسيع فوضوي لوجود الجمهور المستخدم من خلال مشاركاته وتعليقاته وأحكامه الانفعالية ،إذ سرعان ما جعلت الإعلاميين أما نوع من الإرهاب الفكري ،فضلا على أن مفهوم المؤسسة الإعلامية نفسه صار محل شك وذوبان ،فمادة الشبكات الاجتماعية ،هي : مادة ركامية ،مجهولة المصادر ،انفعالية ،كثيفة مشحونة ،تميل للاختصارات ،نزقة ،خادعة ،تتداخل مع الاشهار ات ،تضخم الرأي وتدمجه مع الموقف ،تنزع للاستقطاب والاصطفاف نحو جزئيات معينة ،لا تهمها الثقافات الفرعية ،خالية من مسؤولية الاعلام نحو الفئات العمرية الدنيا (لا وجود لصحافة الطفل داخلها) ،مفهومها للخدمة العمومية تهكمي ،لا تؤمن بوجود الأنواع الصحفية (تقرير ،تحقيق، روبورتاج...) ،خالية من النقد الفكري المتأني ،عبثية (شبهها البعض بلقطة رقصة المطر الشهيرة في الفيلم الذي انجزه المخرج ستانلي دونن العام 1952، أين شرع البطل في الرقص العبثي تحت الأمطار في ليلة عاصفة ).
البحث عن "غودو"* ..البحث عن مخرج:
كانت حركات "ضد العولمة " وما تبقى من اليسار الدولي المتهالك السباقة منذ قمة سياتل 1999، الى البحث عن منفذ انساني من حركة التحالف المحموم للرأسمالية القطبية الجديدة التي تتمأسس عبر شركات نمطية عملاقة ،عنوانها الأبرز "خدمات الشبكات" ،كـ: ميايكروسوفت وغوغل ويوتيوب كوربوريشن ..،ثم التواثب المنظم نحو فرض عولمة اتصال/خدمات ،تراهن على دمقرطة جديدة للمعلومات الشبكية عبر الهواتف ،فالسطو على براءة الاختراع المنتهية الصلاحية أواسط الثمانينات جاء سهلا (هي مدة صلاحية براءة غراهام بل للهاتف السلكي منذ 1876)،وجعل من مهمة تهجين الصحافة تقنيا ومعياريا ضمن المنصات والشبكات مهمة كل التطويرات والتقنيات التي انبعثت بما يشبه التنافس العدمي .
لكن تبقى مقولة جيفرسون وغيره رنانة كناقوس في عالم يشوبه النسيان و التوهان .
-------------------------------------------
- أنظر: لعياضي نصر الدين، " صحافة “الحلول: إشعال شمعة أفضل من لعن الظلام". https://nlayadi.com
- عن دراسات الإعلام الالكتروني في الجزائر أنظر: لعياضي نصر الدين، "الصحافة الإلكترونية: أحادية الشكل وتعدد المضامين أم أنواع صحفية جديدة". مؤتمر صحافة الأنترنت في الوطن العربي: الواقع والتحديات، كلية الاتصال، جامعة الشارقة، الشارقة يومي 22 -23 نوفمبر 2005 (بحوث غير منشورة).
- رابح.عمار. السمات الاتصالية للصحافة الإلكترونية، الجزائر نموذجا. مذكرة ماجستير غير منشورة، قسم علوم الإعلام والاتصال، كلية العلوم الإنسانية والحضارة الإسلامية، جامعة وهران، جوان 2007
- نسبة الى مسرحية لصامويل بيكيت، بعنوان "في انتظار غودو " في غمار مسرح اللامعقول الذي كان سائدا في أوروبا طيلة الخمسينات من القرن العشرين
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 03 ماي 2021