نضال الأمير عبد القادر بين: الحكمة العملية والسياسة الفاضلة

 

 

المؤلف : الأستاذة محمدي رياحي رشيدة

المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة وهران2

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني  عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث  : فلسفة علوم وتنمية بالجزائر، جامعة وهران2

 

 

 

 

 

 

" لا أنشر مغامرتي وتجاربي في إفريقيا الشمالية استجابة لمطالب الكثير من معارفي وأصدقائي من أيام صباي فقط، وإنما أفعل ذلك أيضا لأن إفريقيا لا تزال دائما أرضا غير معروفة بالنسبة إلينا، ولأن الأمير عبد القادر تلك الشخصية التي لا أظن أن واحدا من مواطنيها يعرفها أحسن من معرفتي لها، أصبح الآن ذا أهمية سياسية، ومن ثم أعتقد أني أخدم بذلك المصلحة العامة"[1] - يوهان كارل بيرنت-

 

 

لم تكن سياسة الأمير عبد القادر نتاجا باردا مجردا، ولا وليدة نظر شخصاني، يستكمل أو يترجم تراثا ضخما من "السياسة" تتدافع مجاريه لتداني بداية القرن الثامن عشر ولم تكن كذلك، مجرد سلوك سياسي متميز ورائد في آن. بل هي أكثر من ذلك، فقد مثلت تدخلا مثيرا بين حاجات العمل اليومي والأفق النظري، لترسي في النهاية جملة شواغل وهواجس ما برحت حاضرة بقوة في الوعي العربي والإسلامي. سياسة الأمير، إذا، هي في الأساس تحذي المرحلة والحاضر، ثم رد ذلك التحدي من خلال إدراك نافذ لحقيقته، أي لعمقه النظري، والاستجابة بالتالي في ما يكاد يكون مشروعا، نظريا، محددا.

نقول "يكاد يكون..."، لأن شروط العصر وحدوده وموقع الأمير فيه، قد طبعت جميعا سياسة الأمير بالطابع اليومي النضالي، وبطابع الحدة التي حكمت وقائع عصره وعلاقاته.

وهكذا تحولت آثار سياسته بين أيدينا، إلى سجل نابض أمين وتحديات زمانه وقضاياه من منظور إصلاحي متقدم، يلامس حينا بعد حين جذرية قل نظيرها.

هذا الارتباط بين سياسة الأمير ووقائع عصره، هو المدخل الصحيح إلى فهم موقفه، والتعرف كذلك، على حجم إسهامه من جهة وخصوصية ذلك الإسهام وتفرده وتدرجه من جهة ثانية.

" جاء الأمير بتجربة جديدة في الحكم، جديدة على العصر الذي عاش فيه وليست جديدة في التاريخ، عندما رشحه والده للولاية سنة 1832 كان أمامه نماذج من الحكام المسلمين:

سلطان المغرب وسلطان آل عثمان، وشاه إيران وملك أفغانستان، ثم ولاة من أمثال باي تونس وباشا مصر وإمام اليمن. وقد كان يمكنه أن يقلد أحد هؤلاء أو حتى يقلد الداي حسين المخلوع. ولكن الأمير رفض أن يكون نموذجه أحد هؤلاء جميعا. ونحن لا ندري لماذا فعل ذلك؟ هل لأنهم كانوا جميعا مستبدين وهو أبعد ما يكون عن الاستبداد؟ هل لأنهم كانوا بعيدين عن تنفيذ الشريعة الإسلامية وهو أحرص ما يكون على تنفيذها؟

هل لتغلغل العملاء الأجانب في دولهم بينما لم يكن هو قد انغمس في حمأة النفوذ الأجنبي؟ ليس لدينا الجواب الثاني على هذه الأسئلة، وإنما نرجح أن الأمير اختار نموذجا جديدا يؤصل به الخلافة الراشدية إلى حكم الإسلام في سطعته الأولى"[2].

يرى بعض المؤرخين أن الدولة عند الأمير، تتميز بانبثاقها عن إرادة شعبية، وبيعة شرعية في عهد كانت الدولة الإسلامية تعيش فيه على السلطانية"[3]

فلذلك يقول الأمير حين تولى الإمارة: " إذا كنت قد رضيت بالإمارة فإنما ليكون لي حق السير في الطليعة، والسير بكم إلى المعارك في سبيل الله".

هكذا يخاطب شعبه بوحي الواجب الديني، والوازع الوطني، فيرى المنصب تكليفا له بأن يتحمل أعباء المسؤولية، ويقوم بشرف الجهاد في سبيل الله.

"ويمكن ذكر الخطوات الهامة التي قام بها من أجل بناء الدولة فيما يلي:

  • v أولا الجانب السياسي والتنظيمي: عمل على تقوية علاقات الدولة بالدول الخارجية ولا سيما المجاورة منها، تونس، وليبيا قي الشرقـ،، والمغرب الأقصى في المغرب، وكانت سياسته نابعة من تعاليم الدين، فهو يرى في القرآن دستورا تصلح به أمور الدولة، فما جاء مطابقا لأحكامه أخذ به دون هوادة وما جاء مختلفا عنه نبذه ونهى عنه بشاذة، وبرزت فريضة الجهاد في مقدمة الفرائض الأخرى، لحاجة البلاد الماسة إلى درء الأخطار عنها.
  • v ثانيا الجانب العسكري: أراد الأمير أن ينشئ جيشا نظاميا يواجه به العدو الفرنسي وعمل على الاستفادة من خبرة المدربين الأجانب الذين استقدمهم لتدريب جنوده.
  • v ثالثا الجانب التعليمي: كانت المساجد والزوايا تقوم بدور رئيسي في تعليم الدارسين علوم القرآن واللغة ومختلف أنواع المعارف، وكان الأمير يدرك أن العلم عنصر أساسي في بناء المجتمع.
  • v المعاهدات الدولية: معاهدة دولة وأخرى، هي المعيار الدقيق لوزن كل منهما فيما تتضمن تلك المعاهدة سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا... ولعل نصوص المعاهدتين اللتين عقدتا بين دولة الأمير ودولة فرنسا، تكشف النقاب عن القفزة النوعية التي قفزتها دولة فتية لا يتجاوز عمرها بعض سنوات، من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية وأن تقف موقف الند المكافئ لدولة عظمى لها وزنها السياسي في المحافل الدولية، وهيبتها العسكرية على مستوى الجيوش العالمية"[4].

ولاشك أن الأمير كان على نفس القدر من الإدراك إن لم يكن أكثر لما كان يجري على الساحتين العربية والإسلامية وعلى دراية بطبيعة العلاقات الدولية عهدئذ.

" يبدو هذا من خلال  ما كان ينوي إجراءه من إصلاحات على طريقة "محمد علي" كتحديث الجيش وتأسيس الإدارة والأخذ بأسباب العصرنة عن طريق إرسال بعثات تكوين لفرنسا. إنه على علم تام بتطورات الأمور ومستجداتها فعلى غرار أحمد باي كان الأمير هو الآخر قد عرف مصر ومر بها وهو في طرقه للأماكن المقدسة أو الرجوع منها، وعلى اطلاع بما يجري في كل الساحات ليس عن طريق السفريات والاتصالات فحسب، وإنما من خلال ما كانت تنقله إليه الصحافة الفرنسية مما يجري في العالم"[5].

أتيح للأمير أن ينطلق إذن من جملة مقدمات نظرية بدت له صادقة كليا في فهمها التقدمي للإسلام، ثم في ربطها الإسلام بوقائع العصر السياسية والثقافية والاجتماعية إسهام الأمير هو، إذن، رمز وعي فيه الكثير من الحس الفلسفي القادر على ربط ما تفرق وتشتت من معطيات ووقائع وردها إلى مبادئها، وهو كذلك استمرار شجاعة للخط الإصلاحي في تعميمه وتعميقه والدعوة له، مع فرص تحويله واقعا فعليا: سياسة وثقافة واجتماعا.

لم يكن الأمير في لحظة واحدة، على هامش ما يجري ويتحول. كان بادي القوة في المسؤوليات التي تسلمها، وظل خطه إصلاحيا نضاليا وطنيا، فهو شخصية منتمية إذا صح التعبير، نشأ في ظل نظام أخلاقي محافظ وانكب على التحصيل باكرا، الأمر الذي أتاح له أن يحيا حياة مسؤولة متزنة رسمت له نمط أخلاق سلوك وأهواء لم تخرج كثيرا عن الإطار الرصين المسؤول الذي صاغ بواكير وعيه وشخصيته.

ولذلك لم يكن متمردا بالمعنى السياسي الدقيق للكلمة، لم يكن ممالئا ولا مرتهنا؛ ولم يخن قناعاته أنى اتجه. حين نعلق على منحى له أو ننقذه، فإنما ننقذ قناعته التي لها، وهذا طبيعي أن تصيب أو تخطئ، وهي في مجملها قناعات لم تخطئ في الغالب؛ بل احتفظ على الدوام بنبضها وأمانتها، وأحيانا بصحتها إلى يومنا هذا.في شخصية الأمير الكثير من العناصر والعوامل التي تدفع إلى الاتزان والرؤية وتبعده عن غائلة التطرف.

هذه "الأخلاق" السياسية لم تتحول عنده "مضمونا" سياسيا على الإطلاق فلم يهادن ولم يتنازل ولم يساوم على مبادئه ومواقفه وانتهى به الأمر إلى معاداة تركيا وفرنسا معا سواء بسواء.

كانت الحكمة العملية، إذن، مرحلة إسلامية خالصة بمنى ما، إذ توفرت فيها تحديات وحاجات وشروط كانت تدفع باتجاه الأزمة: أي باتجاه الحل أو محاولة الحل وفي حدود الجوانب التي رأيناها، والعاملين الأكثر حضورا بالذات، كان تصور الأمير للحل حاضرا واضحا وحاسما: نهضة إسلامية شاملة تستند إلى غنى الإسلامي العقيدي وتستجيب في الآن نفسه، لوقائع العصر وتحدياته.

لقد أراد الأمير أن يحتفظ بالأمرين معا: حاضرا موحدا مزدهرا منيعا ولا يخرج عن روح الإسلام. ولم ير أي تناقض بين المطلبين. هو أمر لا جدال فيه، تأكد منطقا ويتأكد تاريخا؛ فالإسلام نجح في أكثر من ردود في إقامة الدولة الفاضلة وبناء المجتمع الفاضل، مجتمع الدين والدنيا.

تلك هي قناعة الأمير عبد القادر الثابتة، نادى بها وحمل أعباءها، فلم يهادن ولم يساوم ولم يستكن، بل ظل له على الدوام أمله وعمله وثقته بمستقبل آخر.

هي إذن دعوة إلى تجاوز التخلف، وحث على طلب علياء المسلمين بأخذهم ناحية كل ما ينفع وتمكنهم من أسباب العلم في سبيل رفع الفقر عن كاهل الناس فيبطل التأخر حجة في أيدي المستعمرين يسوغ لهم استعمارهم. زهي دعوة إلى الوحدة، فالوحدة قوة ومنعة، والوحدة هي طريق الاستقلال وطريق الحفاظ عليه في آن. وهي دعوة إلى العمل، فالإسلام دين علم وعمل؛ دين دنيا وآخرة، وقد حثت الآيات كما حث الحديث على السعي في الدنيا ابتغاء راحة الناس ومرضاة الله. والعلماء كما يرى الأمير، هم قادة الأمة، فإن فسدوا فسدت؛ وهم القيمون على مستقبلها. هو ذا، إذن، سبيل العلماء في انتمائهم لذاتهم وأمتهم وللمسؤوليات الجسام التي أنيطت بهم.

هو ذا جانب من إسهام الأمير السياسي، في شقه الإسلامي بالذات عسى نستكمله في مداخلات لها علاقة بجوانب أخرى من كفاحه. كان الأمير عبد القادر مناضلا، أولا، ثم هو مثقف وأستاذ وكاتب، ولعلها سمة حاضرة بقوة في حياة الأمير كما في تراثه الذي بلغنا.

إذا شئت أن تطلع على مختلف أبعاد شخصية الأمير فأمامك عدد لا بأس به من مؤلفات عرب ومستشرقين، تزكيه جنديا وقائدا سياسيا وزعيم دولة.

وإذا أردت أن تتبع مراحل حياته فإن "تحفة الزائر" لابنه الأكبر خير ترجمان لحياته خطوة خطوة... بالإضافة إلى مخطوط "سيرته الذاتية".

وإن وددت أن تتبين موقعه في ميدان التصوف، فدونك مؤلفه الضخم "المواقف" فضلا عن كتابيه "ذكرى العاقل"و"المقراض الحاد".

فلا غرو إذن أن يعرف عن الأمير: إقدامه جنديا، وصلابته قائدا، وحنكته سياسيا وكفاءته زعيم دولة وورعه صوفيا.

     

 

 

     -------------------------------

  

[1] - يوهان كارل بيرنت- الأمير عبد القادر- ترجمة وتقديم د أبو العيد دودو- دار هومه للطباعة والنشر والتوزيع الجزائر- الطبعة الثانية-ص 24.

[2] - شارل هنري تشرشل- حياة الأمير عبد القادر- ترجمة وتقديم وتعليق أبو القاسم سعد الله- ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر- ص 7.

[3] - مشكلة الحكم الإسلامي في دولة الأمير عبد القادر- الدكتور عبد الله شريط- بحث نشرته مجلة الثقافة- عدد 75 –ص 237.

[4] - زكريا صيام- ديوان الأمير عبد القادر الجزائري- ديوان المطبوعات الجامعية- المؤسسة الجزائرية للطباعة- ص 28.

[5] - عبد الحميد زوزو – مراسلات الأمير عبد القادر مع الجنرال دي ميشيل ووثائق خاصة بتاريخ الجزائر في عهد الأمير- دار هومه للطباعة والنشر والتوزيع- الجزائر

            طبع في 2003 – ص 11.

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة