الجزء 3: منظومة الارث الثقافي العربي والإسلامي بين نقد الجابري ومقاربات أركون

 

المؤلف: أ.د.دراس شهرزاد

المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة وهران2

للإتصال بالمؤلف: عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث:الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2

 

 

 

 

*** الجزء الثالث:محمد أركون ***

 

 

محمد أركون" وقراءاته للثقافة الإسلامية التي انتهج فيها نهجا أركيولوجيا([1])، حيث استطاع من خلال  المنهجية التفكيكية إحداث زحزحات عديدة لا زحزحة واحدة داخل ساحة الفكر الإسلامي، وبالتالي الفكر العربي([2])، بهذا المنهج استطاع أن يحلل أكبر وأخطر مشكلة العرب والمسلمين وهي: مشكلة الحداثة العقلية والفكرية، وكيف يمكن المقارنة والتركيب بينها وبين التجربة الإسلامية؟

إن الأستاذ محمد أركون قد اختار لتفكيك "مسألة الإسلام والحداثة" كتابين لمفكرين إثنين" الأول: هو "كتاب فصل المقال عني ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" "لابن رشد" (يتوقع أن يكون قد ألف حوالي عام 1187).

الثاني: كتاب "مقاربة الحداثة" للمفكر الفرنسي المعاصر "جان ماري دوميناك" (باريس 1987)، وفيه محاولة لتحليل مشكلة الحداثة، ومسارها في الغرب منذ عصر التنوير وحتى اليوم([3]).

يقارن محمد أركون بين مفكرين مختلفين من حيث الفكر، والعصر، فالأول، مفكرا إسلاميا، والثاني" مفكرا فرنسية معاصرا، كما أن الأول يمثل العقلانية القرون الوسطى، أما الثاني بموضع عقلانية ومعقولية الحداثة الحديثة والمعاصرة يقارن أركون بعد أن يفكك فكر كل واحد منهما ويستنتج: يشكل فكر ابن رشد السقف الأعلى في الفلسفة الإسلامية القروسطية بحيث تميزت فلسفته بالتعقل والمعقولية والنظالية ضد فكر الفقهاء المالكين والمتكلمين، والغزالي، وحتى حراس الأرثوذكسية المسيحيين، ومنه يمثل ابن رشد بعقلانية أعلى قمة في الفكر الإسلامي الكلاسيكي وأبلغ عقلانية.

فمن خلال التحليل الأركيولوجي لفكر وعقلانية ابن رشد أراد "أركون أن بموضع معقولية ابن رشد بالقياس إلى المعقولية الحديثة([4])، بمعنى أن تجربة ابن رشد لإدخال النظرة العقلانية إلى الفكر الإسلامي الكلاسيكي هي نفسها التي يهدف إليها الدكتور أركون خاصة وغيره من المفكرين العرب والمسلمين، أي إدخال الحداثة وعقلانيتها إلى واقعنا العربي والإسلامي الحاضر، فبدراسة أركون لكتابات المفكرين الأوروبيين العقلانيين بالدرجة الأولى وممثلي اللحظات الهامة في تأسيس الحداثة الفكرية بأوروبا، كنصوص ديكارت، هوبز، كانط، هيجل، ماكس فيبر، ليفي سترولين، ميشيل فوكو وغيرهم يحاول أن يبني عقلانية عربية وإسلامية حديثة، إنه بقراءة ابن ر شد في القرون الوسطى، وتجربة الحداثة في أوروبا الحديثة المعاصرة، يبرهن على إمكانية التوفيق بين "الإسلام والحداثة".

لماذا اختبار محمد أركون ابن رشد؟ فيجيب "اخترت ابن رشد كمثال تطبيقي من أجل التفكير في موضوع الإسلام والحداثة... والواقع بين رشد يمثل داخل الفكر العربي الإسلامي أحد أفضل ممثلي التيار العقلاني والفلسفي والعلمي، وقد مثل هذه العقلانية إلى درجة أثار في السربون، وأكسفورد، في القرن الثالث عشر الميلادي حركة فكرية تدعى بالرشدية أو بالعقلانية الرشدية([5])، فهو يمثل إذن مرجعية هامة داخل إطار الفكر العربي الإسلامي، وداخل إطار الفكر الأوروبي أو اللاتيني المسيحي في ذلك الوقت، إنه يمثل نقطة التواصل والاحتكاك والتفاعل بين كلا الفكرين والثقافتين؛ وعن هذا الاحتكاك الحضاري الخصب تولد تيار الحداثة فيما بعد... واخترته أيضا لأنه مفكر منغلق داخل حدود المعقولية القروسطية([6])، بمعنى آخر: فإنه قد أصبح الآن ينتمي كليا للتاريخ... لأن عقلانيته لم تعد عقليتنا.... وإذن فإن دراسته تتيح لنا أن نقيس حجم المسافة الفاصلة بين المعقولية والقروسطية والمعقولية الحديثة([7]).

قد أصبح تحلي محمد أركون لعلمي أصول الدين وأصول الفقه قراءته لكتاب ابن رشد "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، مبحثا رئيسيا، لأنه يدعو إلى ضرورة دراستهما، ولكن لا يجب معرفتهما أن تكون "تقليدية امتثالية" وإنما تكون "معرفة تاريخية"، رأى أي محاولة تشكيل ظهور هذين العلمين في التاريخ ومدى إيجابية حركتهما داخل إطار عصرهما، ومدى محدوديتهما بالنسبة لعقلانية اللحظة الحديثة، فالإمام الشافعي عندما ألف رسالته الشهيرة في أصول الفقه قام بحركة إيجابية نافعة، وحركته تظل صالحة، ومن الضروري أن يقوم بها المسلمون من جديد اليوم، قلت حركته ولم أقل مضمون هذه الحركة وأساليبها، فكل ذلك مرتبط بعصره، ولم يعد له علاقة بنا اليوم، فاليوم نحن بحاجة لظهور عالم مسلم جديد متمكن من العقلانية الحديثة لكي يكتب لنا رسالة تاريخية في أصول الفقه وأصول الدين... ويراعي حصول شيء جديد وكبير هو الحداثة... هذه هي التاريخية، وهذا هو الفكر التاريخي والعقلاني الحديث الذي أدعو كافة العرب والمسلمين إليه، ففيه منتجاتهم من الخسران والضياع والتخلف عن ركب الأمم والتقدم... وهو ليس خارج التراث والسنة، وليس ضد التراث والسنة وإنما من خلال التراث والسنة يدفع بالأمور إلى الأمام ويطورها لكي تصبح قابلة للإندماج في عصر الحداثة"([8])

من وجهة النظر هذه، نجد أركون يحاول استنطاق أو مساءلة الفكر العربي والإسلامي التراثي الكلاسيكي، حتى يثبت محاولات وجرأة المفكرين لعرب والمسلمين بطرحهم الحلول، ومواقف تمثلت كحركات غيرت واقع الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي معا في عصر مضى؛ ومنه يحاول أركون إحداث قطيعة بين مضمون فكرنا التراثي وواقعنا المعاصر، لأنه يدعو إلى الإندماج مع الحداثة  أو العقلانية الحديثة بواسطة إنجاز برنامج عقلي وفكري كبير، يعي التراث والسنة، والذي وحده يستطيع إدخال الإسلام والمسلمين في إطار الحداثة والعصر، فسمي أركون برنامجه هذا:

"بنقد العقل الإسلامي"؛ وعليه فإن العقل العربي والإسلامي يمثل هدفا مشروعا لمحاربة الأحكام المسبقة والشائعة بخصوص العروبة والإسلام "إذن فمن المشروع القيام بنقد العقل العربي ونقد العقل الإسلامي، لأن هذين العاملين العربي والإسلامي موجودان في الواقع الموضوعي؛ ولكنهما يستخدمان في غالب الأحيان بطريقة إيديولوجية لا معرفية... وإذن فليتدخل هذان العاملان، وليتخذا مكانتهما المشروعة... وعدم الخلط بين وظائفهما... لأنه ينبغي أن نميز دائما بين الوظيفة الإيديولوجية والوظيفة المعرفية، فهما في حالة صراع دائم في كل المجتمعات وفي كل هذه العصور بل وفي أعماق الشخص الواحد نفسه"([9]).

في هذا يكمن برنامج أركون الذي يحاول فيه تطبيق منهجية العقل الحديث على الفكر العربي والإسلامي، أي يحاول بلورة الحداثة وموضعتها داخل الفكر والنتيجة العملية لهذه التجربة هي إعادة التفكير العربي والإسلامي في مساره التاريخي.

السؤال الذي يطرح نفسه على برنامج الدكتور أركون هو: من أين نبدأ عملنا؟ من الإسلام أم من الحداثة؟ هذا التساؤل هو الذي طرحه أركون على نفسه حتى يحدد منهجيته في إعداد برنامجه الحضاري، ولتحديد العلاقات "التي نشأ بين الإسلام والفكر الغربي"([10])؛ ثم يجيب أركون على نفسه فيقول: "أنه ليس لنا خيار، سوف نبدأ الحداثة، فنحن غاطسون ومنغمسون في المناخ الذي خلفته الحداثة... ولكن ينبغي أن نميز هنا بين نوعين من الانغماس في الحداثة:

الانغماس في الحداثة المادية الاستهلاكية والانغماس في الحداثة الفكرية والعقلية([11])

إنه من الضروري التمييز بين الحداثة والتحديث، فالحداثة هي رؤية العالم بمنهج عقلي، وهي عكس القداما وليست المعاصرة إنها "موقف للروح أمام مشكلة المعرفة"([12])، كما يقول أركون؛ أما التحديث فهو الاغتراب أو التغرب أو التشبه بالغرب، أو التشبه بمظاهر المدينة الغربية، ومنه فهو مجرد إدخال الأساليب وتقنيات ومخترعات حديثة إلى الوطن العربي والإسلامي، لأنه يقوم فقط باستيراد الحداثة المادية الجاهزة، فليس من حقنا أن نقول بهذا التفسير أننا دخلنا عصر الحداثة، لأننا لم نتمكن بعد من وعي الحداثة الأصلية، أي الحداثة العقلية الفكرية والروحية، فيقول أركون في هذا التمييز أو التفريق بين الحداثة والتحديث: "الجزائر لم تبتدئ بتأسيس مخابر الفيزياء والكيمياء والمدارس الكبرى للرياضيات من أجل إدخال الشاب الجزائري في المسار العلمي الذي أدى إلى الصناعة وسبق ولادتها كما حصل في أروبا... وهذه هي نتائج الحداثة المادية لا الحداثة بحد ذاتها التي كلفت البشرية مدة ثلاثمئة سنة من البحث والجهد والتجريب، وكان يكمن وراءها موقف جديد للروح أما مشكلة المعرفة... الروح الجديدة التي راحت تنفصل تدريجيا عن الرؤية القديمة للعالم... أما نحن فنتلقاها مستوردة جاهزة، ولقمة سائفة ونتوهم أننا قد شاركنا في صنع الحداثة إننا دخلنا عصر الحداثة"([13]).

هذا التحليل لأركون لا ينطبق فقط على الجزائر، وغنما على كل الدول العالم الثالث، بشكل عام، فإنه ينطبق على دول الخليج مثلا، فإنها تستورد أحدث أنواع الحداثة المادية، ولكن ليست هذه هي الحداثة الحقيقية لأنها ليست حداثة عقلية وفكرية أو روحية، لأن الفرد العربي والمسلم لا يملك مناهج علمية جديدة لنقد الحداثة وتطويرها، بل نجده منغمس ومندهش في الحداثة المادية المستوردة ومهيمن عليه إيديولوجيا بشكل شامل.

هذا التحليل الذي قام به أركون ما هو إلا تأكيد لما طرحه فوكو، رولان، بارت، جورج بلاندييه، وهذه الفكرة لا تزال غامضة ومبهمة بالنسبة للبعض([14]).

لنعد إلى تحليل كلمة "إسلام"، ماذا يدل هذا المفهوم؟ قد لا يفهم من كلمة "الإسلام"، الدين الإسلامي (أصول الدين، وأصول الفقه) وقد يدل مفهومه على الإيمان والاعتقاد، وقد تفهمه كعامل أثر ويؤثر على حركة المجتمع وهو منهج المسلمين في الحياة، ونتيجة لهذه الاختلافات والتباينات رغم تكاملها حول مفهوم الإنسان، تجدر بنا اليوم كعمل عاجل وضروري من الناحية العقلية والفلسفية أن نفكر ونتأمل في حقيقة مفهوم "الإسلام"؛ لأننا نعيش في واقع مختل سياسيا وثقافيا واجتماعيا وحتى نفسيا، وللقيام بهذا العمل نجد أنفسنا "مضطرين لتعرية الوظائف الإيديولوجية، والتلاعبات المعنوية والانقطاعات الثقافية والتناقضات العقلية التي تساهم في نزع الشرعية عما كان متصورا ومعاشا طيلة قرون وقرون([15]).  

كيف يمكن التأمل والتأويل للإسلام؟ أي التفكير بمنهجه نقدية بناءة، وجعله قادرا على القيام بوظائف جديدة في مجتمعنا العربي والإسلامي الحاضر،"غني القول أننا لا نستطيع تتبع مسار كهذا حتى نهايته، سوف نحاول في المرحلة الأولى تبيان ضرورة تحرر الفكر الإسلامي، من دائرة التراث التكراري أو التراث الذي يعيد إنتاج نفسه باستمرار، كما أنه من الضروري أن يتحرر من دائرة التراثات الإكراهية من اجل تأسيس تراث قادر على الحفاظ على الخصوبة المتضمنة في التحديد التالي: ينقل التراث لنا أكثر من مجرد الأفكار القابلة للتشكيل المنطقي، إنه يجسد حياة كاملة... ولذى فإنه يتضمن التواصل الروحي للنفوس، وهو لهذا السبب أيضا شرط من شروط التقدم ضمن مقياس أن يتيح لبعض سبائك الحقيقة المرور من حالة المجهول المعاش إلى حالة المعروف الصحيح... وبالتالي فهو يسبق كل توليفة تكوينية ويستمر في البقاء بعد كل تحليل نقدي استدلالي أو فكري عميق"([16]).

يضع أركون منهجية علمية للبلورة مفهوم التراث الإسلامي الكلي أو كما يدعوها "السنة الإسلامية الشاملة"، ويتحدد منطقة في ثلاث خطوات هي:

 

أولا: المقاربة السيميائية أو الدلالية اللغوية

يؤكد أركون على طريقة التحليل الألسني أو السيميائي الدلالي للفكر الإسلامي الكلاسيكي، لأن التراث يفرض علاقة محددة بين الفكر واللغة([17])، يتخذ التراث له قواما متماسكا ويترسخ بدءا من اللحظة التي يتوصلا فيها أعضاء جماعة معينة إلى إقامة إطار مشترك من الإدراك والتصور بواسطة حكايات التاسيس (القصص القرآني) نجد من الناحية السيميائية- الدلالية أن كل التراث- أي تراث يمارس علمه ووظائفيته على هيئة حكاية تأسيسية تغتني باستمرار فيما بعد عن طريق تجارب الجماعة أو الأمة ذات الدلالة([18]).

إن القيام بهكذا نوع من القراءة للقرآن بشكل خاص والتراث الإسلامي بشكل عام، يتقدم في نظر أركون بحوثا تحليلية انتقائية جيدة، لأن بواسطتها نتمكن من إدراك العلاقات الكامنة بين الفكر واللغة لدى المؤمنين المسلمين؛ وكما نتمكن من استخراج المقدمات النظرية التي توجه فكرهم، وأن مثل هذه القراءة الدلالية الحديثة للرموز والمجاز والقصص فقي القرآن سوف تكون "عملية معرفية شاملة تجمع بين التحليل اللغوي والتساؤل التاريخي والتدبير الفكري لاستخراج الجدلية الكاملة بين الحقول الثلاثة: اللغة الفكر، التاريخ"([19]).

ثانيا:المقاربة التاريخية والسوسيولوجية:

إن فهم العلاقة بين الفكر واللغة للتراث، لا يتشكل إلا بعد تحديد رؤيا معينة للتاريخ أي تاريخ الكتابة (الخاصة للقرآن، جمع الأحاديث، وتدوين حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، أي تاريخ الأمة الإسلامية منذ تأسيسها في يثرب، والتي لا يزال البحث فيها قائما حتى يومنا هذا.

"إن إدخال البعد التاريخي في التحليل سوف يضطرنا إلى التفريق بين الإسلام المثالي وبين الإسلام التاريخي المتشكل هو ذاته نتيجة التجاوز والتتابع الزمني للإسلاميات السوسيولوجية... المسألة المطروحة عندئذ هي في تبيان كيف وأين حدثت الانقطاعات أو التواصلات بين الإسلام التاريخي والإسلام المثالي"([20]).

إن مثل هذه الطريقة أو بالأحرى الطرق المعالجة أو المقاربة التاريخية التي يطرحها الأستاذ أركون تتيح تأملا معاصرا حول "الإسلام والتاريخية" ومن المفيد أن نضيف إلى ما ذكرنا تنويرا عن تحليل مفهوم "التاريخية".

ظهرت هذه الكلمة "التاريخية" في مجلة" "النقد" وذلك في 6 أبريل 1872 والمعرفة كما يلي: التاريخية هي صفة كل ما هو تاريخي، وتطور مفهومها مع "آلان تورين" حدها بقوله:"ما سوف أدعوه بالتاريخية هو إذن الطبيعة الخاصة التي تتميز بها الأنظمة الاجتماعية التي تمتلك إمكانية الحركة والفعل على أنفسها بالذات، وذلك بواسطة مجموعة من التوجيهات الثقافية والاجتماعية. وبدلا من أن نضع مجتمعا في التاريخ، فإن الأمر يتعلق بوضع التاريخية في قلب المجتمع كمبدأ منظم لحقل من العلاقات والممارسات"([21]).

نحن هنا إذن أمام عملية بناء جديدة لمسألة خطيرة ومتشابكة يتخبط فيها المجتمع العربي والإسلامي، والذي ينبغي أن نحتاط للأمر جيدا نتيجة لصعوبته وتعقيده، وهي كيف يمكن أن تندمج الحداثة داخل التحول التاريخي الذي يتعرض له التراث؟ أو بشكل آخر كما يقدمها لنا الأستاذ أركون في تساؤله التالي:"إلى أي حد يمكن نقل إشكالية الحداثة ومكتسباتها إلى المجال الإسلامي، وذلك من أجل أن تنير في  داخل الوعي الإسلامي بعدا حياتيا معاشا، لكن غير منظر له؟([22]).

إن المعطيات الأساسية التي تحدد التاريخية الحاضرة للمجتمعات الأساسية تتمثل في أطر اجتماعية، ثقافية ثلاثة وهي: خطاب أصولي، خطاب إيديولوجي، خطاب شبه علمي.

لن نستعرض هنا كل التحليلات التي قدمها الأستاذ أركون، لكننا بالمقابل نحدد بعض الملاحظات التي تساعدنا على معرفة وفهم معادلته والمتمثلة في: الفعالية العاملة الداخلية للفكر الإسلامي، والفعالية العلمية المتضامنة مع الفكر المعاصر كله "نلاحظ في المجتمعات الإسلامية أن الإسلام بصوره المختلفة، سواء أكان خطابا اجتماعيا، سياسيا، ثقافيا، أم منجزات فنية وأثرية (مساجد خصوصا)، أم ممارسات دينية أم سلوكا فرديا، يشهد اليوم انتشار الإسلام، أو أن الإسلام يستعيد مواقعه السابقة، أو بنزع الصيغة الإسلامية فيما يخص النخبة من دعاه الحداثة"([23]).

إن هذا النص يثير الاهتمام على أكثر من صعيد، لأنه يوضح موقف أركون بشكل خاص حول ملامح الوعي الإسلامي، خصوصا بعد سنة 1950 التي شهدت أنظمة الحزب الواحد والتي قادت الجماهير العربية الإسلامية إلى حركات وحروب تحريرية وطنية، بالإضافة التطورات الإيديولوجية ما بين المعسكرين الليبرالي والشيوعي، والأزمات الإيديولوجية البرجوازية اللبيرالية والأزمات الإيديولوجية الاشتراكية الثورية.    

تحاول المجتمعات العربية والإسلامية أن تنقد نفسها من واقعها البائع والمزري، والمنهار في جميع المستويات، والعامل الوحيد الذي تستند إليه هو الرفع من قيمة التراث الإسلامي، لأنها ترى أن التراث الحي هو الشيء الوحيد الذي تعبر بواسطته اليوم عن وجود وعي إسلامي، وعليه يؤكد أركون في قراءته لهذا الوعي على إعادة بلورة مفهوم جديد وحديث للتراث الحي، أي تلخيصه من أي سيطرة دوغماتية، وأنثربولوجية وتيولوجية.

ضمن هذا التحديد، يحاول أركون من خلال قراءاته التفكيكية والتركيبية للخطاب الإسلامي المعاصر طرح ما يجب عمله وهو أولا: تفكيك كل الأحكام التعميمية والخاطئة التي يتميز بها الوعي الخاطئ للخطاب الإسلامي،  ثانيا: يجب إدماج المعطيات الإيجابية للتفحص النقدي لكل التراث الإسلامي، ومع توظيف لأحدث المناهج والوسائل العلمية الحديثة، بمعنى آخر محاولة قياس خطابات الوعي الإسلامي المعاصر بحجم خطابات الوعي العلمي المعاصر؛ "يبدو أن مفهوم الوعي الإسلامي يمثل جزءا لا يتجزأ من إستراتيجية كبرى لفكر خلاق ومسؤول يقف أمام المغامرة الحالية  للإسلام متسائلا، إننا لا نهدف في هذا المقال إلى الشروع في وصف دقيق متقص للسيكولوجيا المحددة في القرآن أو في الحديث النبوي، أو في النصوص الكبرى للفقهاء، التيولوجيين أو نصوص الفلاسفة أو المتصوفة أو الأدباء...إلخ، بقدر ما نهدف إلى فهم السلوك و"العقلية الحالية للمسلمين"... إننا نريد هنا إلقاء نظرة تاريخية ونقدية على "ملامح الوعي الإسلامي"... لكن بدلا من أن نبتدئ بدراسة هذا المسار من نقطة الأصل ونستمر في ذلك تاريخيا حتى اللحظة  الحاضرة فسوف نفعل العكس- سوف نبتدئ من اللحظة الحاضرة ونرجع إلى الوراء، وذلك لكي ننقض فكرة الاستمرارية الخاطئة التي تقول باستمرارية منتظمة وثابتة لهذا الوعي، ومنتشرة في كل الأوساط الاجتماعية، الثقافية منذ أن ظهر القرآن"([24]).

إن ممارسة التحليل التفكيكي والنقدي الكاشف للخطاب الإسلامي، سوف يساعدنا على أن نخلصه من كل تقديس وأسطرة كاذبة، وسطحية، ومن كل وعي ساذج، ومن محاولة إيصاله إلى المؤمنين كمعرفة أو وعي علمي، أي وعي إسلامي وتراث حي.

القراءة التاريخية واللغوية للتراث الإسلامي الكلاسيكي لازمة وأساسية لابد منها من أجل دمج كامل للفكر الإسلامي بالعلوم الوضعية، أو كما يقول أركون، المعطيات الواقعية المحسوسة للوجود.

إن مثل هذه القراءة تساهم في تكوين نظرية للخطاب الإسلامي المعاصر، الذي سوف يدفع الوعي الإسلامي إلى النشوء والتطور ويستطيع أن يتجاوز أزمته الكبرى الراهنة"، إننا نأمل على الأقل أن نكون قد حددنا المسار الذي يتيح إمكانية تفحص هذا الوعي بكل أبعاده التاريخية والسوسيولوجية واللغوية والسيكولوجية، سوف نسمح لأنفسنا أن ختم هذا المقال بتسجيل الملاحظات التالية كنتائج مؤقتة:

  • أن الوعي الإسلامي كان قد أسس من قبل القرآن.
  • الوعي الإسلامي كان قد عاش بكثافة الحالة التأويلية وساهم في إغنائها وإخصابها إلى حد كبير.
  • الوعي الإسلامي كان قد اشتغل وتطور أثناء مرحلته الأكثر ديناميكية وإنتاجا، داخل الفضاء الابستمولوجية، الإغريق، السامي نفسه، تماما كالوعي اليهودي والوعي المسيحي.
  • الوعي الإسلامي يواجه اليوم كل المشاكل وكل التوترات والأزمات المتولدة عن المجابهة ما بين التراث الحي والحداثة.
  • المجابهة مع الغرب الفاتح المتفوق كانت قد ولدت إيديولوجيا كفاحية صارمة شوهت الطابع الانطولوجي الخاص بالإسلام وعرقلت –ولا تزال- مهمة نقد التراث الحي التي لابد منها إذ ما أريد للمسلمين أن يتجرروا فعلا، كما أن الإيديولوجية قد حرفت هذه المهمة عن مسارها"([25]).

أما نحن من جهتنا فلن نتبع لا هذه الطريقة، ولا غيرها، لأننا نرى أن كل الطرقات أو المقاربات لا تزال تبحث هي نفسها عن المعايير أو المقاييس المنطقية والعلمية السليمة، التي تساعدها على ترسيخ وتسويغ، أو استمرار البحث، أقول أن كل ذلك ما هو إلا محاولات لتحديد المصير الحالي للإسلام، وقراءة الماضي بواسطة الأحداث الجارية الحالية اليوم، ومحاولة تخليصه من كل أسطرة وأدلجة، لأن هذا في نظر أركون ما هو إلا إعادة تركيب للتراث الإسلامي الكلي بعد تفكيكه.

يبقى مع ذلك صحيحا القول بأن هذه المقاربات اللغوية والتاريخية للفكر الإسلامي الكلاسيكي ومحاولة إعادة توحيد الوعي العربي- الإسلامي، ما هب إلا أفكار أو وجهات نظر طوباوية انتهجت طرقا وأساليبا كمحاولات لتلخيص الوعي العربي والإسلامي من كل نظرة تقليدية للتراث، وللواقع المعاش أي محاولة طرح منهجيا تقوي الفكر الإسلامي الحالي أو المعاصر ضمن آفاق تاريخية وابستمولوجية جديدة.

إن أركون يحدد طريق تحرير الفكر الإسلامي من العقلية الدوغماتية الكلاسيكية،"ليس مهما ولا أردا أن ندحض دوغمائية معينة عن طريق دوغمائية أخرى تزعم أنها تدافع عن الإيمان الديني "الصحيح" أو تحتمي وراء الكليشهات الداعمة الموضوعية العلمية. إن الفكر الديني الذي نهدف إليه هو ذلك الفكر الذي يقبل بإعادة النظر المستمرة في النماذج المستمرة في النماذج الثقافية التي يستخدمها وذلك من أجل أن نبلور بدقة أكثر فأكثر مفهوم الحقيقة.

إن العودة النقدية التي تمارسها على التقاليد والأنماط الثقافية التقليدية لا تعني بالضرورة هجرانها و التخلي عنهاأ أو التخلي عنها، ذلك أنه لا يمكن تحديد شروط ممارسة  الفكر الديني عن طريق قطعه بشكل تعسفي عن كل إنجازاته وفتوحاته السابقة.

ينبغي علينا فقط أن نأخذ بعين الاعتبار التعديلات والتصحيحات الحاصلة عن طريق طوبولوجيا([26])المعنى؛ وذلك عندما تنتقل من مرحلة العصور الوسطى إلى مرحلة العصور الحديثة، هذه المنهجية أو تلك البحوث التي تهدف إليها هي تاريخية بشكل أساسها، ولكنها مدعومة من قبل التأمل الفلسفي الذي ينعشها وينشطها ويضيئها غالبا([27]).

إن الفكر العربي والإسلامي المعاصر يبقى أسير الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي هذا مما يجعله غير قادر على القيام بالعملية النقدية لكل مسلماته وفرضياته، لذا يجب توفر جهود كبيرة وضخمة لإنقاذ هذا الفكر من أزمته.

كما أن من أهداف الأستاذ أركون خاصة، وأي مفكر عربي مسلم هو طرح الفكرة أو فرض جديد وهو حقوق الفكر المحرر والمحرر. و المعاصر ضمن آفاق لاتاريخية وابستيمولوج زوظز           

ثالثا: المقاربة التيولوجية:

يرى أركون أن الأرثودكسيات اليهودية والمسيحية والإسلامية تشكل أنظمة إيمانية مغلقة، أي مجتمع المؤسساتي الديني المرتبط بالقوانين المقدسة والتراث والكهنوت، في المقاربات التي تحدثنا سابقا عنها: من المقاربة السيميائية إلى المقاربة التاريخية والاجتماعية.

كان أركون يتحدث دائما عن التراث الكلي الخاص بالإسلام وكيفية تحقيق وعي إسلامي يخدم وينقذ الفكر العربي والإسلامي المعاصر من المخيال الديني (أو التخيل الديني) الموروث أبا عن جد، والذي يستغله القادة السياسيون والشيوخ المحنكون الذين يحسنون التلاعب به والمغالطة بواسطته وغرسه في أذهان الشباب، ونتيجته هو استخدامه لإثارة مفاهيم وقيام حركات سياسية تتداولها مثل: التقدم، اليقظة، الصحوة، الانبعاث، الإصلاح، النظام، الديمقراطية، التحرر الوطني، بناء الدولة الوطنية، بناء الدولة القومية الكبرى، العدالة الاجتماعية، حقوق الإنسان، الوحدة، تحقيق الدولة الإسلامية الشورى...إلخ.

لكن أركون وسع من هذه النظرة الخاصة للإسلام إلى نظرة شاملة لكل أنواع التراث التوحيدي الخاص بالأديان الثلاثة خاصة: اليهودية، المسيحية، الإسلام.

إن مثل هذه المقاربة التيولوجية، كان يهدف من وراءها أركون ليس فقط توحيد الوعي الإسلامي (السنة + الشيعة)، وإنما توحيد الوعي الديني التوحيدي كله، فهذا هو الهدف الذي يجب أن يصل إليه الأركيولوجي في نظر الأستاذ أركون.

إن التفكير بتيولوجيا التراث الكلي الذي يبحث في الإشكاليات المشتركة بين التراثات الكتابية المقدسة الخاصة بالأديان الثلاثة، يبقى العمل به شبه مستحيل أحيانا ومستحيل أحيانا أخرى، نتيجة لأن حتى الغرب الذي يتميز بتفتح وتقدم في الوعي كبيرا جدا وملحوظا يبقى الأمر غامضا وصعبا، فكيف لوعي عربي وإسلامي أن يتقبل مثل هذه المقاربة وهذا التوحيد للوعي الديني التوحيدي كله؟

يرى أركون ويقترح علينا أن "نتأمل هنا لحظة صغيرة بمثال دقيق ومحدد خاص بمعظلة عويصة مشتركة لدى المسيحية والإسلام: أقصد تاريخية بعث يسوع المسيح من جهة، والصحة الإلهية للقرآن من جهة أخرى، نجد ضمن السياق التاريخوي السائد في الغرب منذ القرن التاسع عشر أن اللاهوتيين أو التيويولوجيين المسيحيين لم يملكوا إلا أن بالرفض على البحث التاريخي النقدي الذي ينكر البعث"([28]).

إن المجتمع المؤسساتي في الكنيسة والجامعة وتخصصاتها المتعددة ترفض كل معرفة قائمة على العقل والبحث، وتقبل فقط بأولية الإيمان في المقدس الديني.

أما الباحث التاريخي النقدي يهدف من دراسة لمسألة الوحي خاصة والتراثات التوحيدية الثلاثة، هو طرح موقف تيولوجي جديد يتجاوز التراثات التقليدية رغم أنه كما يصرح في ذلك أركون أنه "سوف يلقى اللامبالاة من قبل السلطة ومن قبل العلماء المسلمين في آن معا"([29])

إن التيولوجيا يجب أن تخضع لآليات وتقنيات منهجية جديدة تطبيقها كل معرفة علمية وعملية اليوم، رغم وجود حدودا فاصلة بين المعرفتين: المعرفة التجريبية الطبيعية التي موضوعها الوقائع الطبيعية المحسوسة، والمعرفة التيولوجية التي تستند إلى التصور العقلي الخالص، والتي موضوعها الوقائع المافوق طبيعية أو الميتافيزيقية أو الإلهية، وهذا ما يقترحه أركون وما يرجوه من كل ناقد تاريخي" بهذا الشكل أرجو أن يكون القارئ قد فهم أني لا أستبعد التيولوجيا من حقل التفحص والدراسة الخاصة بالإنسان والمجتمع ولكن ينبغي على التيولوجيا أن تخضع للقواعد والمناهج المشتركة المطبقة على كل عملية معرفية. ولكي تحقق ذلك ينبغي عليها أن تستعيد من جديد دراسة كل مسألة الوحي استنادا على معطيات جديدة، ن الأمر لا يخص فقط الدعوة للسماح بتعايش الخطابات الثلاثة التي يصف بها كل تراث نفسه، وإنما ينبغي علينا أولا أن نوضح بجلاء الشروط التاريخية والنفسية والانثربولوجية لانبثاق كل تراث منها وآلية اشتغاله الوظائفية ثم ينبغي أن نفعل الشيء ذاته بالنسبة للتراثات التوحيدية الثلاثة، عندئذ يصبح ممكنا تأسيس الروابط بين الكتابات المقدسة والوحي والتراث

في مجتمعات الكتاب([30]).

يقصد أركون من المقاربة التيولوجية النقدية للتراث، هو إحداث القطيعة التاريخية بين الإسلاميات([31]) الوصفية المنهجية الاستشراقية الكلاسيكية التي تكتفي بالمرحلة الوصفية البادرة من الدراسة دون أن نتمكن من التجاوز إلى المرحلة النقدية التفكيكية وبين منطق علوم الإنسان والمجتمع الراهن.

إن العائق الجوهري والذي يعتبر من المشاكل الأولية والجذرية في نظر أركون أمام أي محاولة جديدة ومقاربة جدية للتراث والوعي والكتابات المقدسة، هو إهمال الإنسان عامة والباحث التاريخي والتيولوجي خاصة لفكرة أو مسألة علاقة الإنسان بالتقديس التي جعلت الإنسان يرفع التراث المرتبط خاصة لفكرة أو مسألة علاقة الإنسان بالتقديس، التي جعلت الإنسان يرفع التراث المرتبط بالقرآن، الإنجيل، التوراة، إلى منزلة الحقيقية المتعالية التي لا يستطيع هذا الإنسان المعتقد بها أن يغيرها أو يحولها أو يعدل فيها.

"بالطبع فإن ظاهرة التقديس تستمر في الوجود ولكن دعامتها مختلفة وتجلياتها متغيرة، وعندما نستطيع بلورة نظرة مرضية لظاهرة التقديس أو الانبثاق ظاهرة التقديس ومنشئها ومسارها داخل الوعي ودعاماتها المتغيرة في الوجود البشري، فإننا عندئذ نكتشف أن مشاكل الصحة والموثوقية أو الاختراع والتجريف الذي لحق بالنصوص المتلقاة على أنها مقدسة، أقول نكتشف بأن هذه المشاكل ثانوية في الحقيقية، إن منطق الثالث المرفوع  يبدو عندئذ تافها لا أهمية له لأننا نكتشف قارات أخرى من الحقيقية النفسية واللغوية والتاريخية للإنسان([32]).

يميز أركون بين النظرة الكلاسيكية المنطقية المركزية العقلانية الأرسطوطاليسية، وبنى النظرية المنطقية المعاصرة التي تتميز بالتعدد التي تتميز بالتعدد على قواعدها وآليتها، وتدفع بالمعرفة إلى حقل جديد من المعقولية والفهم والنقد يتحدث أركون في هذا التمييز عن التفكير الذي يعتبر من المستحيل التحدث عنه وينعته بالمفكر فيه ويقصد خاصة الفكر الإسلامي.

يمثل هذا الموضوع أحد المحاور الفكرية التي اهتم بها وشغلت الأستاذ أركون، لأنه يخص التاريخ والمجتمعات السابقة والمجتمعات الراهنة للأمة العربية والإسلامية أي الصراع الحاد بين السيادة والمشروعية العليا الإسلامية والسلطات السياسية، وهذه الدراسة نستنبطها من بحثه الذي عنونه "السيادة العليا أو المشروعية العليا" والسلطات السياسية في الإسلام([33]).

كان الفكر الإسلامي قد أنجز علما نظريا يدعى بعلم الفقه لكي ينظر للفعالية التفسيرية والاستنباطية التي تقع على كاهل الفقيه التيولوجي المكلف بتوضيح الأحكام الشرعية، راح هذا العالم يدعم ويقوي ويضاعف من انتشار العمل الموجه للنصوص المقدسة القرآن+ الحديث النبوي)، التي راحت بدورها تهيمن على وعي وتفكير وخيال وسلوك كل فرد من الأفراد المة([34]).

يلاحظ أركون أن الموقف الإصلاحي الإسلامي فيما يخص علاقة الفرد بالدين والمجتمع يبدو مثاليا متعاليا وأصوليا، وأخلاقيا، ومحاولته لطرح فكرة الإصلاح للمجتمع المهدد بالإنحطاط أو المنحط، يبقى نموذجا مثاليا لأمة عربية وإسلامية وعلاوة على ذلك يستوجب وجود مؤرخ يركز على الحس العملي التجريبي يقوم بتحليل تجريبي وبراغماتي للواقع الراهن، ويستطيع التمييز، أو "التفريق بين الدين الرسمي أو "الشرعي" المرتبطة بالسلطة المركزية وبين الدين الشعبي المتهم بالخرافات والأوهام المضطهد سياسيا"([35]). وأ ن الموقأأأا       

يميز أركون ويؤكد على هذا التمييز بين إنتاج الأفكار والإيديولوجيا([36])، يعرف المصطلح الأول بأنه الجهد الذي يقوم به المفكر من أجل تنشيط الأفكار التي تشكلا نظاما فكريا ما، وتوسيعها وإغنائها وتحديدها، والتحقيق من مدى تطابقها مع الواقع، وأما  الإيديولوجيا، فهي على العكس، تهتم باختيار بعض الأفكار التبسيطية المنتقاة عن قصد مسبق، والتي هدفها تعبئة القوى الاجتماعية (الجماهير) للقيام بأعمال محددة([37]).

من خلال هذا التفريق، يرفض أركون الاعتقاد بأن التراث لم يتأثر بالأسطرة أو كل رؤية خرافية، وأنه لم يخضع لأي "تسلط عقائدي لمفاهيم محسوبة "شغالة"([38])، كالمزدوجات المتعارضة التالية ديني/علماني، روحي/ زمني، مقدس/ مدنس أو دنيوي([39]).

فيستقرئ أركون أن كل تسلط عقائدي هو وهم مركزي كبير ملأ الفكر الإسلامي، وفي نظره أنه ما هو إلا تنظيم سياسي، اجتماعي، إيديولوجي، من وضع الإنسان لكن الإنسان المسلم لا يعتقد في هذا بل يظنه تشريع إلهي؛ أما التنظيمات فما هي إلا تفسيرات من إنتاج مشرع بشري ناتجه عن " اجتهاد، استنباط، تفسير المندمج والمحدد من قبل أصول الدين وأصول الفقه([40]).

إن التحري والبحث في مجال سوسيولوجيا الإسلام([41]) يشترط في نظر أركون، أن يهمل المحلل التاريخي هذا الوهم ويحذفه، لأن كل محاولة تفسير واستقصاء ووصف وفهم المجتمعات عامة، والمجتمع الإسلامي خاصة وينبغي أن تهتم بهذه النقطة وإلا ضاع المحلل في الخطابات الأسطورية والتقديسية وأهمل تحليل الواقع الملموس كما يتحدث ركون عن هم عقبة تعترض الباحثين والدارسين للخطاب الإسلامي، هي القراءات الحديثة للخطاب الإسلامي التقليدي بصيغة تحديثية فيعتبرها أركون خطيرة وفاشلة فإن " عناوين الكتب والمقالات الأكثر حداثة (بالمعنى الزمني للكلمة وليس بالمعنى العلمي أو الفكري) توضح مدى القوة المعرقلة للإسلام والتي لا تزال تهيمن على نظرة الدارسين ومناهجهم وأساليبهم عندما يتعرضون للموضوعات الأكثر تعقيدا سوف أذكر من بين هذه ما يلي: حضارة الإسلام اللاسلكي"، و "الإسلام في العصر الوسيط". "الإسلام وحضارته"، "والجنس في الإسلام"، "الإسلام الحديث"([42])... إلخ([43]).

إن وجهة نظر أركون هذه ليس معناها رفض كل إشارة إلى الإسلام، وإنما المراد منها هو تحديد منهجية بحث، الهدف منها هو تحديد العلاقة بين الدين، والمجتمع ومدى منها في الآخر، "لأن مجرد التفريق ما بين مجموعة متعلمة ومجموعة ذات ثقافة شفاهية، وما بين جماعة معربة، وجماعة غير معربة أو بين الحضريين والقرويين أو الريفيين البدويين، وبين الجماعات القبائلية والجماعات التي تجاوزت  مرحلة القبائلية...إلخ يتيح لنا أن نكتشف تنوعا كبيرا في التعبير الديني وصوره وأشكاله"([44]).

وبالتالي فالباحث الذي يريد القيام يبحث وتحري منهجي جيد، يجب أن يكون أكثر حدرا حتى لا يقع ولا يكون أيسر الأحكام التوبولوجية، والإيديولوجية، ولذا يرى أركون أنه يجب "إعادة اختيار الطريق من جديد، وعلى مراجعة الأساليب التي أدت إلى تكوين المعارف والممارسات السابقة"([45])، والتي أنتجت الإطار الفكري السائد والضغط الإيديولوجي الخاضع إلى مصطلحات ومفاهيم غامضة واستغلالية كما يحددها أركون "الميث (الأسطورة)، المعتقدات، الاعتقاد، واللاعقلاني، الشعائر، المقدس (أو الحرام باللغة القديمة)، بالرمز، العلامة، المخيال، العقلاني، واللاعقلاني، والوعي، واللاوعي، الدنيوي، أو المدني، والعلمانية، والعلمنة، ونظام الإنتاج، الطبقة الإنتاجية...إلخ"([46]).

إن موضوعا للبحث هكذا يتطلب منا دراسة معمقة، وتحليلات جديدة، وتحريات بالتشكيلات الاجتماعية، والمستويات الثقافية، والقوى الإيديولوجية، وعوامل التطور، حتى نتج دراسات متخصصة ومفيدة غير متحيزة.

لنختم هذا الحديث عن المقاربة التيولوجية، ووجهة نظر أركون بشكل مختصر ونقول، إن أركون أراد أن يكون للعقل العربي والإسلامي الحاضر  نظرة شمولية وإيضاحية ومقارنة على المجتمعات الإسلامية، وراح أيضا يعيد توحيد الوعي العربي الإسلامي من خلال تحديد ملامح التطور والنهضة.

فرغم الجهود التي قدمها أركون وهو يحدث مقاربات متباينة ومتكاملة في آن واحد على الوعي الإسلامي، وكيفية إدخاله عهد الحداثة؛ تبقى دراساته نظرية، ولا تزال تواجه عوائق ومشاكل مفتوحة أهمها هو الصراع الذي يعيشه العقل الإسلامي بين التراث الكلاسيكي وحداثة الغرب الحاضرة، والثقافة العربية الإسلامية السائدة اليوم التي ما هي إلا إيديولوجية مسيسة.

في الحقيقة، إن تناول مثل هذا الموضوع، وخاصة مع هذه المقاربات الأركيولوجية التي قدمها لنا أركون من خلال مؤلفاته والتي حاول من خلالها فهم العقل الإسلامي منذ ظهوره في طور التجريبية التأسيسية وصراعاته مع عقل الدولة في جميع السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية وحتى الاقتصادية؛ يبقى رغم النصوص التي اعتمدنا عليها في التحليل وفي طرح هذا الموضوع غير كافية، لأن دراستنا هذه تبقى دائما تتطلب مراجعات عديدة واستطرادات مطولة، نأمل أن يتوفر لنا الوقت مستقبلا لكي ننجزها حتى النهاية، كاملة وواسعة.

  

الخاتمة:

إن الواقع العربي مرفوض من أساسه، ويعيش مأساة بعد الاستقلال، كما يوجد أسباب أخرى، لا نريد أن نخوض في تفاصيلها وتفاصيل الواقع، ولا في تضاريس مشاكله، لأننا لا نحسب أن التشريح الجسد العربي- الإسلامي هو هدفنا الآن في هذا البحث لأن هذا الأمر قد أفضنا وأفاض غيرنا بما فيه الكفاية، والذي يهم الآن كيف يمكن تحقيق الثورة الشاملة على الإيديولوجيا المريضة في المجتمع العربي- الإسلامي؟ وهل يمكن إيجاد مشروع نهضوي يستطيع استبدال الوضع الراهن هل كل المستويات؟

لبناء مجتمع جديد أكثؤ قدرة على حل متناقضاته وموجهة التحديات التاريخية التي تعصف بحياتنا.

يجب أن يعي الفرد العربي والمسلم فكرة رفض الواقع الذي يعيشه رفضا جازما حادا، والعمل بضرورة تغييره تغييرا شاملا.

للوصول إلى هذه المرحلة عمليا، والتي احتمال تحقيقها على المدى البعيد، حاول مثقفون عرب ومسلمون وضع برامج للنهوض بالمجتمع والفرد العربي والمسلم، وفي هذا الصدد طرحنا في بحثنا هذا عدة نماذج عربية وإسلامية اشتغلت بالبحث عن أفكار فلسفية هادفة وبنائة وإيديولوجية عربية جديدة خالصة.

إلا أن هذه البرامج النهضوية رغم عمقها، وقوتها في التحليل والنقد لواقع الأمة والعقل العربيين، إلا أنها بقيت محاولا نظرية فقط، لم تجد بعد الأرضية اللازمة لتحقيقها وممارستها، رغم ما تعيشه الذات العربية الإسلامية من فراغ فلسفي وإيديولوجي، عليه يمكن انحصر بعض الملاحظات حول الدراسات التي قدمت كنماذج في هذا البحث في ما يلي:

  • إن قراءات العقل العربي بمنطق العقلانية العربية، فمحاولته هي تفسير للماضي بأسلوب حديث فقط، وبالتالي لم يستطع وضع أو تأسيس معقولية جديدة عربية حديثة.
  • من خلال التحليل الأركيولوجي للفكر والعقلانية العربية والإسلامية التي هدف منها أركون إدخال الحداثة وعقلانيتها إلى الواقع العربي والإسلامي الحاضر، ما هي إلا محاولة معرفة تاريخية فقط، وتأملا معاصرا حول "الإسلام والحداثة" والهام في هذه الدراسة هو محاولة أركون وضع أساس يتمكن به العقل العربي والإسلامي التخلص من كل تقديس أو أسطورة ووعي ساذج، وهي تساهم في تكوين نظرية للخطاب الإسلامي المعاصر، الذي يعيد توحيد الوعي العربي الإسلامي.

هذه النماذج المطروحة لم تتمكن بعد من الممارسة الفعالة لها في الواقع، وهذا ناتج عن غياب الرؤية المنهجية ، والقناعة الحقيقية، وانعدام الرؤية الأصلية للحضارة وللتقدم والحداثة.

رغم هذه المحاولة والمراجعة والاستطراد المطول للعديد من المشاريع، والذي كنت آمل من ورائها الوصول إلى جواب أو حل استثنائي لواقعنا الراهن، إلا أني في الحقيقة أجد أن موضوعا كهذا في هذه اللحظة بالذات لا يزال متشابكا، ووجدنا نفسنا ينقصنا الكثير حتى نتمكن من الحكم بشكل كامل، رغم بعض المحاولات الجريئة والتي تعتمدها أحيانا.

لنختتم هذا الحديث عن العلاقة بين العقل الفلسفي والعقل الإيديولوجي في الفكر العربي المعاصر بقولنا أنه ينبغي أن تكون هناك حلقة وصل أساسية بين معرفة الواقع ألا وهي يجب معرفة الإنسان للإنسان الأسير بين الثابت والمتغير.

[1] - المنهج الأركيولوجي: هو التحليل الذي يهتم بالنظر على الأسس التي تبنى عليها المعرفة، وعلى الكشف عن المسلمات التي تحدد نظام الفكر وأصطلح عليه بمنهج التفكيك، وكان" جاك دريدا" هو الذي بلور مصطلح التفكيك في اللغة الفرنسية – La diconstruction- وكان بعد أن استعاره من "هيدغر" ويعرف "فوكو" مؤرخ الفكر: بأنه أركيولوجي الفكر، لأنه يقوم بنفس عمل عالم الآثار (الأركيولوجي) الذي يزيح الركام، ويكتشف الطبقات العميقة للحقيقة التاريخية أو للواقع التاريخي، فمؤرخ الفكر يستخدم آليات التفكيك لتعرية الفكر الذي ولد النظريات والتشكيلات الإيديولوجية والأنظمة الإيمانية والمعرفية، وكل ذلك من أجل نزع البداهة عنها (أنظر- الفكر الإسلامي قراءة علمية- الدكتور: محمد أركون- ترجمة هاشم صالح- مركز الإنماء القومي- بيروت- لبنان- طبعة-1987-ص 10.

 

--------------------------------------------

[2] - المصدر السابق- ص 11

[3] - الإسلام والحداثة- مقال: د- محمد أركون- ص323- نفس المعطيات السابقة  

[4] - نفس المرجع- ص324.

[5] - الرشدية-L’averroïsme- العقلانية الرشدية La rationalité averroiste

[6] - المعقولية القروسطية-L’intelligibilité médiévale -

[7] - المرجع السابق ص332-333.

[8] - المرجع السابق ص333-334.

[9] - المرجع السابق ص 337.

[10] - المرجع السابق ، ص 355

[11] - المرجع السابق ص 357.

[12] - المرجع السابق: ص 357

[13] - المرجع السابق ص357-358

[14] - المقصود أنه لا يزال أساتذة جامعيون يرفضون هذا بين الحداثة والتحديث لأنهم لا يزالون متعلقون بمناهج قديمة: كالمنهجية الفللوجية، والوضعية، التاريخوية.

[15] - الفكر الإسلام قراءة علمية، محمد أركون ص 31 نفس المعطيات السابقة.

[16] - المصدر السابق ص 31-32

[17] -يقصد منه القراءة اللغوية الدلالية الحديثة للعلاقة المباشرة بين الكلمة (الاسم) والشيء المادي الموجود أو الوجودي الحسي في الطبيعة (المسمى) والتصور العقلي (الفعل الذهني المجرد) الذي يسمى في علم اللغة الحديث بالوسيط أو العائد وهو الذي يفيد إثبات أو ربط أو إحداث التواصل بين الدال والمدلول أو الاسم والمسمى.  

[18] - المصدر السابق، ص34

[19] - الفكر العربي: محمد أركون، ترجمة الدكتور، عادل العوا، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر،الطبعة الثانية 1983، ص21.

[20] - المصدر السابق- الفكر الإسلامي، قراءة علمية، محمد أركون.

[21] -المصدر السابق، ص 116.

[22] - المصدر السابق ص 119.

[23] - تاريخية الفكر العربي الإسلامي، الدكتور: محمد أركون، مركز الإنماء القومي، لبنان الطبعة الأولى 1986 ص 115.

[24] - المصدر السابق، ص 116.

[25] - المصدر السابق، ص 136-137.

[26] - طبولوجيا Topologie هي أحد فروع الرياضيات والتي تهتم بدراسة موقع الشيء الهندسي بالنسبة إلى الأشياء الأخرى، أما الطبولوجيا Typologie تعني الأنماط (النمطية أو النموذجية) وهي تعني علم الأنماط البشرية من وجهة نظر الطبائع العضوية والذهنية. 

خرى، أما الطبولوجيا Topologie

[27] - المصدر السالبق ص153-154.

[28] - الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمد أركون ص 45، نفس المعطيات السابقة

[29] - نفس المصدر ص 47.

[30] - المصدر السابق، ص 47

[31] - يستخدم أركون عادة كلمة إسلامياتي Islamologie   عوضا من كلمة " مستشرق" " المشحونة بالقيم السلبية والجدالية في الوعي العربي والإسلامي، يضاف إلى ذلك أن علم "الإسلاميات"Islamologie قد حل أو أخذ محل، مصطلح الاستشراق" –عن المترجم هاشم صالح- كتاب: تاريخية الفكر العربي الإسلامي- للدكتور محمد أركون- ص 203 نفس المعطيات المسبقة.

[32] - المصدر- ص58.

[33] - M. Arkoun- pouvoir et vérité  ED CERF 1981

[34] - تاريخية الفكر العربي الإسلامي- محمد أركون- ص200، نفس المعطيات السابقة.

[35] - نفس المصدر- ص202.

[36] - إنتاج الأفكار idéation

[37] - المصدر السابق- ص212-213

[38] - شغالة: Opérateur، وظائفي: fonctionnel

[39] - المصدر السابق- ص 213.

[40] - المصدر السابق ص 214.

[41] - للحصول على فهرس جيد حول الموضوع أنظر 1977 J.P Charnay- sociologie, religieuse de l’islam

[42] - ملاحظة: هذه المؤلفات تعود إلى المؤلفين التالية أسماؤهم حسب الترتيب المطابق: دوج سورديل، أندريه، ميكيل، ج فون غروبنام، كلود كاهين، مكسيم رودنسون من نفس المصدر السابق ص241

[43] -المصدر السابق ص 216-217.

[44] - المصدر السابق ص217.

[45] - المصدر السابق ص206.

[46] - المصدر السابق ص 208.

 

 

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة