"هابرماس" ومهمة النقد الجديدة

 

المؤلف : أ.د.بلعاليا دومة ميلود

المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة الشلف

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث  :الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2

 

 

 

 

 

 

تمهيد:

                لا شك أن النظر إلى النقد كممارسة نظرية وعملية في ذات الوقت هي مسألة أصيلة ضمن التوجه العام لمدرسة فرانكفورت، بدءا برعيلها الاول، وهي المسألة التي نقلت نظرية المعرفة من مجرد نطرية فلسفية خالصة إلى مستوى نظرية نقدية للمجتمع، أي إلى نقد لمظاهر الهيمنة والتسلط التي تلازم البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع الرأسمالي الما بعد صناعي على وجه الخصوص، ومن ثم جدية الدعوة إلى ضرورة إعادة النظر في الوظيفة الحقيقية للفلسفة من جهة و لإعادة طرح مشكلة الفلسفة الاجتماعية تحديدا من جهة ثانية، نلحظ هذا المعنى فيما نص عليه ـ قبل هابرماس ذاته ـ كل من "هوركهايمر" و"هابرماس" ضمن إحدى مقالتيهما، إذ يؤكد الأول: " إن الوطيفة الاجتماعية الحقيقية للفلسفة إنما تكمن في نقدها لما هو سائد مهيمن"[i]، و يدعو الثاني (أي أدورنو) ممتهن الفلسفة "أن يتخلى منذ البداية عن الوهم الذي رافق المشاريع الفلسفية وهو وهم إمكانية إدراك كلية الواقع بمجرد قوة الفكر"[ii].

                من هذا المنظور العلائقي بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية دعا "هوركهايمر" إلى "تكوين جماعة بحث دائمة يشترك فيها الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاد والتحليل النفسي والمؤرخين [...] تباشر الاسئلة الفلسفية الكبرى التي تخالج أذهانهم بواسطة مناهج علمية مدققة، تدقق الأسئلة وتغيرها بحسب موضوع علمهم وتجدد المناهج من دون أن تغيب عنها الكونية"[iii]. غير أن هوركهايمر لم يقف عند مصطلح الفلسفة الاجتماعية، بل نراه يتجاوز في نص آخر له هذا المصطلح لينتقل إلى مصطلح "النظرية النقدية"، تماما مثل "ماركيوز" في نصه عن "الفلسفة والنظرية النقدية"، الأمر الذي يفسر وجود تغيير في البراديغم، و سيكون "النقد" بمثابة الفكرة الموجهة والناظمة لكل أبحاث المدرسة حيث اتجهت إلى صياغة الفلسفة الاجتماعية في شكل "نظرية نقدية" (Kritische Theorie)، هذا وإن كان الأمر قد أخذ صورة نظرية نقدية للمجتمع ، خاصة مع ماركيوز، فإنه مع "هابرماس" سيأخذ صورة "سوسيولوجيا نقدية بامتياز"، أي محاولة التفكير في شروط إمكانية قيام نظرية معرفة خاصة بالمجتمع من جهة، وفي شروط إمكانية قيام المجتمع في حد ذاته. ومن هنا يتضح أن مشروع هابرماس الفلسفي يتجاوز الدائرة الضيقة لمفهوم النقد الاجتماعي مثلما مارسه هوركهايمر أو ماركيوز من جهة ، ومن جهة أخرى تجاوز "لعملية الفصل الثنائي، عند كل من هوركهايمر وأدورنو، بين  النواة الفلسفية ــ النقدية وبين المنحى السوسيولوجي نحو طموح موحد لسوسيولوجيا نقدية"[iv] ، ومن ثم الدعوة إلى نموذج جديد للعقلانية النقدية.

وظيفة العقل النقدي:  

                يعترف "هابرماس" بدور "هيغل" في توسيع أفق الفلسفة الكانطية عن طريق تحويله لدور الفلسفة من النقد المعرفي إلى النقد التاريخي الذي يمس بشكل عام الأشكال المتناقضة للحداثة، " وهذا المنعطف الأساسي هو الذي منح القيمة التاريخية العالمية للفلسفة في علاقتها بالثقافة ككل"[v]. لم تعد مهمة الفلسفة في نظر هابرماس مهمة قضائية  تأسيسية، أو "محكمة العقل" ــ كما تصورها كانط ــ  تدعو العلوم والثقافة إلى المثول أمامها، بقدر ما صارت مطالبة بعقد علاقة "حوارية" تمكنها من التفاعل الإيجابي مع بقية العلوم والثقافات الأخرى، "ذلك أن البناءات الثقافية هي مجالات "لقيم ثقافية" تستدعي الوصف والتحليل وليس التأسيس الفلسفي"[vi] .

                 إن تحويل وظيفة الفلسفة هو بذاته تحويل لوظيفة العقل، أي نقله من مجال النقد المتعالي إلى مجال النقد السوسيولوجي، بحيث يصير من المهام الأساسية للعقل الفلسفي الاضطلاع بعملية "نقد العقل الأداتي" والكشف عن بنيته التسلطية والاستعبادية التي ترتهن فكر وإرادة الإنسان وتحول بينه وبين إمكانية انعتاقه الاجتماعي والسياسي. وعلى هذا النحو تأخذ العقلانية النقدية عند "هابرماس" بعدا اجتماعيا تحرريا ، وهو ذات البعد الذي لا يزال في إمكان العقل الحداثي استكماله، "فالعقل الحديث لم يستنفد كل إمكاناته للقيام بمراجعة ذاته ومحاكمة نتاجاته اللاعقلانية، ومن ثم يتعين إيجاد تصور مختلف للعقلية إذا أردنا عدم السقوط في الأسطورة كما حدث لمعظم الفلاسفة الذين اعترضوا على عالم التقنية مثل هيدغر"[vii]. هذا لا يعني أن هابرماس ينكر دور العقلانية الأداتية في الاستجابة لمتطلبات الحياة المادية للمجتمع، ولكنه بالمقابل يلح على الدور التفاعلي الذي يجب أن تلعبه الذوات عبر الفاعلية اللغوية من حيث هي فاعلية تواصلية، قولا وفعلا في ذات الوقت، وعلى الفلسفة أن تلعب دور "الوسيط" بين مختلف المعارف الأداتية وبين الممارسة الأخلاقية والتعبير الجمالي، وربط ذلك كله بحركة التفاعل أو التداول الكلي، إذ بهذا "تتخلى الفلسفة عن دور القاضي الثقافي و تضطلع بدور المؤول الوسيط"[viii] .

                إن الاستفادة من التراث الفلسفي الحداثي (الكانطي ــ الهيغلي خاصة) ممكن في حدود تفريغ هذا التراث من نزعته التأسيسية الأخلاقية الشمولية، والبحث بداخله عن الفروض والصيغ النظرية التي تسمح بتفعيل عملية "التواصل"(Activité communicationnelle)  من خلال استثمار المعايير الكلية والشروط القبلية لتحقيق فكرة الإجماع المعبر عنه في صيغة "التداولية الكلية"(Pragmatique universelle). و يعد التعاون الذي يحدث بين فلسفة العلم وتاريخ العلم ، وبين نظرية أفعال الكلام والدراسات التجريبية، مثالا حيا على إمكانية تحقيق "الإجماع الكلي"، ومن ثم مشروعية التواصل كمبدأ وغاية لكل تفكير فلسفي يروم إعادة البناء الاجتماعي وفق منظور براغماتي نقدي، دون أن تفقد مع ذلك الفلسفة طابعها الكلي. وفي هذا عودة متجددة إلى الممارسة الأصلية للفلسفة كما تبدت مع "سقراط"، حين كانت وظيفة الفلسفة لا تنفصل عن "ممارسة الحياة" ممارسة نقدية وحرة ونزيهة.

                فالفلسفة من هذا المنظور التواصلي النقدي تستعيد علاقتها بالحياة وبالممارسات اليومية، الأمر الذي ينقذها من حالة الاغتراب التي فرضتها عليها العقلانية الأداتية بسعيها المستمر إلى "تشييئ" الإنسان وإيقاع نوع من التماهي بينه وبين "عالم الحاجات المتزايدة"، ومن ثم ارتهان إرادته لهذه الحاجات بالخلق المتجدد للوسائل التي تنميها وتطورها، "والنتيجة في هذه الحال، كما يقول ماركيوز، هي الرفاه في الشقاء. فما الترويح عن النفس، واللهو، والعمل والاستهلاك حسب إيحاءات الدعاية، وحب ما يحبه الآخرون وبغض ما يبغضونه، إلا حاجات كاذبة في غالب الأحيان"[ix].

                 واضح إذن أن العقل النقدي عند "هابرماس" ليس رفضا للعقلانية ذاتها، ما دامت تتخذ العقل أداة لنقد ذاته، بل هو يحيي صورة جديدة للعقلانية، هي تلك الصورة التي يبدو فيها العقل الفلسفي "قوة" لتغيير العالم كما تصور ذلك "ماركس"، ومن ثم نزع الأسطرة عن هذا العالم . فالعقلانية النقدية هي فلسفة "للفعل التاريخي" ، من حيث هو فعل محض إنساني، وهي تنظر إلى الفكر، لا كإطار نظري يكتفي بتحليل الواقع كمعطى موضوعي مستقل عن الذات، بل "كممارسة" تجعل من المعرفة ذاتها "خيارا اجتماعيا" تتموقع من خلاله الذات تموقعا يسمح لها بالتفكير في بدائل وخيارات أفضل، وذلك بحسب "وضعها التاريخي" وسياقاتها السياسية والاجتماعية الخاصة. فالتفكير في البدائل والخيارات الممكنة هو في حد ذاته "ممارسة نقدية" تتجاوز النقد المعرفي إلى النقد الاجتماعي، حيث يصير تأمل العلوم والمعارف طريقة أو منهجا لإعادة بناء المجتمع ومن ثم تحريره من كل أشكال اللاعقلانية، وفي هذا تأكيد على دور الفلسفة التحرري في المجتمعات الصناعية التي لا تزال تطمح لمزيد من السيطرة على الطبيعة و الإنسان. إن العقل النقدي في صيغته الهابرماسية هو عقل يسعى باستمرار "لتعقيل" ذاته، بجعله قادرا على تحطيم الأسطورة التي كونها عن نفسه، أقصد أسطورة "التعالي" التي توحي خطأ بأنه فوق الواقع وبمنأى عن إحراجات اللغة والتاريخ والانتماءات الطبقية . إن هابرماس يدعو، في مقابل ذلك، إلى نظرية للعقل في صورته "التاريخية" حتى يتسنى له تعرية ذاته من أوهام الهوية والتطابق، وأن يتعرف على ذاته "كمتغير" لا يلبث أن يصير "آخر" مغاير لذاته، أي يصير "عقلا معقولا"، فهو "عقل" متى تأمل ذاته كملكة معرفية، وهو "معقول" متى تأمل ذاته كمضمون ثقافي محكوم بسياق تاريخي محدد. ولعل هذا ما يؤكد الطابع العلائقي في النظرية النقدية بين المعرفة والمجتمع، وبين العقل والتاريخ، وأخيرا بين النقد والتواصل.

هابرماس والمهمة المزدوجة للنقد:

يمكن أن نميز عند "هابرماس" مهمتين أساسيتين ضمن منظور السوسيولوجيا النقدية: مهمة نقدية إبستمولوجية ومهمة نقدية إيطيقية

أولا/ المهمة الإبستمولوجية:

                نقد التصور الوضعاني للعلوم الاجتماعية من خلال نقض فكرة التماثل المنهجي بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية ومن ثم اختزال نظرية المعرفة إلى نطرية العلم، وفي هذا الصدد يعمل هابرماس على إظهار ما يسميه بالشرط الإيديلوجي للعلم، أي التحديدات اللاعلمية التي تتحكم في كيفية اشتغال المنظومة العلمية من الخارج والتي تتركز فيما يدعوه هابرماس بالعقلانية الزائفة، التي تتجه باستمرار، وفي غياب التأمل الذاتي المفترض في العلوم الاجتماعية، إلى "إعادة إنتاج المجتمع" بصورة متكررة حتى يبقى الوضع على ما عليه. وعلى هذا الأساس يؤكد هابرماس على أنه "ليس هناك نقاء علميا"[x] تحت أي مسمى كان، سواء مسمى الحياد الموضوعي أو النزاهة العلمية، لأن العلم في سياق النزعة الوضعية تتبطنه "إرادة القوة" وتتلبسه حسابات سياسوية، ومن ثم يدعو هابرماس إلى القيام بعملية حفر داخل الطبقات المعتمة لنظرية العلم الوضعية ومن ثم الكشف عن النزعة الإيديولوجية الثاوية خلف مفهوم العقل العلمي الذي لا يهدف إلى تطوير الممارسات العلمية فقط، بل وإنما يضفي شرعية على النظم السياسية التي تتبنى عقلانيته الأداتية.

ثانيا/ المهمة الإيطيقية:

                تتمثل هذه المهمة أساسا في النضال ضد عملية تشييئ المجتمع عن طريق طرح القيم واعتبارها غير قابلة للتحقيق التجريبي، ومن ثم قلب العلاقة بين الوسائل والغايات حيث تصير الغاية تبرر الوسيلة هو المبدأ الذي يحتكم إليه في عالم يجعل من التقنية والعقل الاداتي مثالا للتقدم، وينسى أن هذا العقل هو عقل براغماتي يتلخص همه الوحيد في تحقيق أكبر قدر من النجاح أو ما يساعد على الوصول إلى النجاح، دونما اكتراث بمضمون هذا الذي ينتجه وبقيمته النظرية، ولعل هذا ما جعل "هابرماس" ينظر إلى العقل الأداتي بوصفه "استعمارا لعالم الحياة". وأمام هذا الوضع تتجه، حسب هابرماس، السيطرة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة صناعيا إلى أن تفقد طابعها التسلطي لتتحول إلى ضرب من العقلنة التي تخفي طابعها القمعي بدعوى التحكم في الإنتاجية المتزايدة كضمان لشروط العيش الرغيد للأفراد، وعلى هذا لا سبيل إلى تخطي هذا الانحراف للعقل إلا بفصل النزعة التقنية عن العلم وجعل هذا الأخير يخضع لنزعة عقلية تنتظم ضمن موجهات أخلاقية إجتماعية، أي منحه مضمونا إنسانيا عن طريق الوعي بالارتباطات الجدلية بين النظرية والممارسة، بين العلم والإيديولوجية وبين المعرفة والمصلحة، أو بعبارة أكثر دقة، الإيمان بضرورة الانخراط في سياق تأويلية نقدية جديدة للعقل تستهدف تحريره من كل أشكال الهيمنة التكنوقراطية وتعيد له كرامته داخل "فضاء عمومي" ديمقراطي، يأخذ فيه النقاش طابعا أخلاقيا حرا ، لا سلطة فيه إلا سلطة الحوار القائم على فعل المحاجة.

"نقد الإيديولوجيا" وحدود خطاب التأويل:

                يشكل "نقد الإيديولوجيا" عند هابرماس البديل الإبستمولوجي للهرمينوطيقا الفلسفية كما صاغ خطوطها الكبرى " هانس جورج غدامير" في كتابه العمدة "الحقيقة والمنهج"، إذ بحكم انتماء هابرماس للنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت فإنه "لا يفهم" كيف أن "وعيا تأويليا معرضا لتأثيرات التاريخ" بإمكانه أن يجد مسافة كافية لتأمل ذاته من موقع نقدي ابتداء، ومن ثم تحرير ذاته من الترسبات الإيديولوجية التي علقت بتاريخه وشكلت في النهاية تراثه، ذلك أن هابرماس إنما ينظر إلى تأويلية التقاليد، لا كشرط مسبق لصيرورة الحوار و التواصل، بل أيضا "كعملية تشويه نسقية للتواصل"، أي باختصار "كإيديولوجيا"، وعليه فإن تأويلية كتلك التي يستند عليها "غدامير" في تأكيده على تجذر الفهم في التراث السابق عليه، لا يكون لها معنى إلا كتأويلية نقدية، وهذا ما يقود إلى ضرورة تجاوز "علوم الروح" كعلوم تأويلية تاريخية إلى "العلوم الاجتماعية "كعلوم نقدية"، ومن ثم إحداث نقطة تحول مزدوج: أولا بالنظر إلى النظرية التأويلية (في صورتها الغادميرية تحديدا) و ثانيا بالنظر إلى النظرية النقدية الوريثة لمدرسة فرانكفورت، خاصة أن هذه الأخيرة ظلت مسكونة بهاجس "العقل الأداتي"، أي بنقد صورة تاريخية محددة للعقل الغربي وهي الصورة الوضعانية، دون أن تبلور شكلا تاريخيا بديلا لهذا العقل انطلاقا من التفكير في الشروط الإبستمولوجية والإيطيقة التي تحدد إمكان قيام عقلانية نقدية قادرة على تحرير العقل من ادعاءاته السلطوية، سواء  الصناعية الأداتية أو النصية التراثية.، ولعل هذا ما استهدفه هابرماس ضمن مشروعه في تأسيس لما اصطلح عليه "بالفاعلية التواصلية" ومن خلال عمله الكبير "نظرية الفعل التواصلي".

                من أهم ما يعيببه هابرماس على "غدامير" هو إغفاله لمفهوم أساسي هو "مفهوم المصلحة"(Intérét)  وذلك بسبب اهتمام هذا الأخير بالمعرفة انطلاقا من دائرة المعنى فقط، بينما أهمل دائرة "الرغبة"، حيث يرى هابرماس ، تحت تأثير  رواد الشبهة (كما يسميهم "ريكور") فرويد وماركس ونيتشه، أن المعنى ليس معطى منذ البدء، بل هو حصيلة صراع دفين بين عنف الرغبة ومصلحة العقل، وما المعنى في النهاية إلا  الشكل المعقلن للرغبة، ومن ثم فلقد فات "غدامير" أن ما يسميه "بالحكم المسبق" ما هو، من منظور النقد الإيديولوجي، إلا نقض غير واع لإمكانية النقد، لا لسبب إلا لأنه يهمل تماما ضرب المصلحة الذي يحكمه . من هنا ، وعبر هذا المفهوم بالذات، أي مفهوم المصلحة، يدخل هابرماس، كما يقول ريكور، "مفهوم الإيديولوجيا باتجاه "ضرب من المعرفة المجردة من كل مصلحة"[xi]، أو كما بعبارة أخرى، "المعرفة من أجل المعرفة"، وهنا بالذات تأخذ الإيديولوجيا معنى الوعي الزائف . إنه فقط من مهام نظرية إجتماعية نقدية إذن أن تضطلع بمهمة الكشف عن الشرط الإيديولوجي للمعرفة، أي عن المصالح الثاوية في مشروع المعرفة.

                يميز هابرماس بين ثلاثة ضروب من المصلحة القاعدية حيث يحكم كل ضرب دائرة معينة من البحث ومن ثم مجموعة من العلوم:

                أولا هناك المصلحة التقنية أو "الذرائعية"، وهي المصلحة التي تحكم دائرة العلوم الإمبريقية ــ التحليلية"، ويكاد يختزل هابرماس الإيديولوجيا الحديثة إلى هذا الضرب من المصلحة، تماما كما فعل "ماركيوز"، حين انتبه إلى صيرورة التصنيع كصيرورة للتشييء" ، ولاختزال الإنسان إلى البعد الواحد. ذلك أن في هذه الدائرة المعرفية تتعزز آليات المراقبة وتظهر إرادة الهيمنة المعقلنة والتحكم الدقيق على مستوى الشأن السياسي والاجتماعي، أي ما يسميه هابرماس "باحتلال العالم المعيش"، ومن ثم توجيه عملية الاتصال باتجاه خط عمودي، يأخذ فيه الأعلى ( الذات المتعالية) موقع السلطة على الأدنى (موضوع التجربة)، "هذه هي المصلحة المعرفية في السيطرة التقنية على العمليات المشيئة"[xii].

                ثانيا المصلحة العملية، وفهم هابرامس "العملية" بنفس المعنى الكانطي، أي دائرة الفعل أو المصلحة الموجهة للتواصل البين ـ إنساني، ذلك أن هابرماس يقابل بين الفعل التواصلي والفعل الذرائعي، أما المجال الذي يتوافق مع مع هدا الضرب من المصلحة فهو مجال "العلوم التاريخية ـ التأويلية"، ذلك أن هذه العلوم لا تستهدف موضوعا ما باعتباره شيئا قابلا للسيطرة، بل تستهدف إمكانية فهم المعنى على فرض وجود إجماع قبلي على إمكانية التفاهم من خلال اللغة، "فاللغة هي المحل الذي يحدث فيه الفهم" بحسب غدامير. إن تدخل عنصر اللغة كمحور للعملية التأويلية هو ما يجعل مصلحة التواصل مشروطة بإكراهات اللغة ذاتها، مما يجعل هذه العلوم تفتقر إلى "التماسف المنهجي" بين المؤول والمؤول، ومن ثم افتقارها إلى لحظة النقد الجذري، ولعل هذا ما جعل هابرماس ينظر إلى تأويلية غدامير باعتبارها "تأويلية محافظة".

                ثالثا وأخيرا هناك ضرب من المصلحة لا يوجد إلا ضمن دائرة العلوم الاجتماعية النقدية"، هو "مصلحة التحرر"، وهذه العلوم يضعها هابرماس في مقابل العلوم الاجتماعية النظامية، التي تسعى لإعادة إنتاج المجتمع بصورة متكررة، ومن ثم تكون خاضعة لذات المصلحة التقنية، كما هو الحال في العلوم التجريبية. فعلى مستوى العلوم النقدية يظهر الانشقاق الأكبر عن تأويلية التراث الغداميرية، إذ في حين أن غدامير يفضل الحديث عن "علوم الروح"، نرى هابرماس يختار الحديث عن "علوم اجتماعية نقدية"، الأمر الذي يجعلنا أمام خيار إبستمولوجي بديل للتأويلية، أو بالأحرى أمام تحول براديغمي حقيقي، ذلك أنه إذا كانت علوم الروح تستعير مثالها النموذجي من "السيرة الذاتية" و من "الفيلولوجيا"، فإن هذا ما يجعلها علوما محافظة لكونها تظل تنظر إلى النقد "كعملية ملحقة بالوعي المتناهي وتابعة لصور الفهم القبلي التي تسبق اللحظة النقدية وتستوعبها بصورة دائمة"[xiii] ، إنها علوم تظل  حبيسة الاعتراف بالسلطة وبالتراث حتى في صيغه التأويلية المتجددة. في حين أن العلوم الاجتماعية النقدية هي علوم يشكل النقد جزءا من تكوينها، وهي تستعير مثالها النموذجي من "نقد الإيديولوجيا" و من "التحليل النفسي"، اللذان يمنحانها قدرة على " تدبر ذاتها" كعلوم تحررية، فهي تضطلع بمهمة "التمييز بين ما هو انساني فيما تصفه كذلك وبين ما تم تشييئه فعلا  واتخذ بالتالي مظهر حقيقة واقعة. [لذلك] اعتماد العلوم الاجتماعية على الوقائع أمر غامض لأنه يحتوي على عنصرين لا تفريق بينهما: ذلك الذي ينتمي إلى إمكانيات الاتصال الأصلية والترميز والمؤسساتية، وذلك الذي تشيء فعلا وصار يبدو كالشيء. يتولى نقد الإيديولوجيا في هذا السياق دورا مزكزيا، لأن وظيفته هي التفريق بين هذين النوعين من الوقائع الاجتماعية"[xiv]  إن ماهو موضوع للنقد الإيديولوجي في هذا المقام ليس الوقائع المشوهة بل نظام التشويه، وليس الرغبة المكبوتة وإنما نظام الكبت، فبسبب تركيز العلم الاجتماعي النقدي على التحليل النظامي ، يرى هابرماس أنه ليس امتدادا لنظرية التأويل"[xv] . بهذا المعنى يشترك العلم الاجتماعي النقدي مع الفلسفة النقدية، لأن ما يجمعهما أمر واحد، أو كما يقول "ريكور" : "المصلحة من أجل الاستقلالية الذاتية"(Autonomie) [xvi].

 

الهوامش:

[i] Horkheimer, « La fonction sociale de la philosophie », Tmultes, numéro 17-18, 2002, p.353

[ii] T. W. Adorno, «  L’actualité de la philosophie », Op.cit, p. 153

[iii]  نقلا عن حسن مصدق، النظرية النقدية التواصلية، مرجع سابق، ص 42

[iv] Paul-Laurent Assoun, L’école de francfort, PUF, Editions DELTA, 1996, p.61

[v] J. Habermas , « Moral consciousness and communicative action » in : The continental philosophy Reader, p. 241

[vi] Ibid., p. 250

[vii]  نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، نموذج هابرماس، إفريقيا الشرق، دار البيضاء، 1991، ص 229 ـ 230

[viii] J. Habermas , « Moral consciousness and communicative action », Op.cit., p. 251

[ix] هاربرت ماركوز، الانسان ذو البعد الواحد، تر. جورج طرابيشي، منشورات دار الآداب، بيروت، ط 2، 1988، ص 41

[x]  نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، نموذج هابرماس، إفريقيا الشرق، دار البيضاء، ط2، 1998، ص 60

[xi] P. Riccoeur, Du texte à l’action, Essais d’herméneutique II, Seuil, 1986, p.390

[xii] نقلا عن ريكور، محاضرات في الإيديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديدالمتحدة، ط1، 2002، بيروت، ص 321

[xiii] P. Riccoeur, Du texte à l’action, Essais d’herméneutique II, Seuil, 1986, p.393

[xiv] ريكور، محاضرات في الإيديولوجيا واليوتوبيا، ص 322 ، 323

[xv] المرجع نفسه، ص 323

[xvi] P. Ricoeur, Du texte à l’action,op.cit, p.393

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة