
بول ريكور ومسؤوليات الفلسفة في القرن الحادي والعشرين
المفكر البخاري حمانه
قسم الفلسفة
جامعة وهران - الجزائر
(إن المهمة الأولى للفلسفة تتمثل في الإثراء والتنوير المستمرين للوجود الإنساني)
بول ريكور(°)
فلسفة الإرادة: الإرادي واللاإرادي
أ ـ لقائي مع بول ريكور:
كنت قد التقيت في شهر أغسطس 1968، لأول مرة وكصحفي([1]) بالفيلسوف الفرنسي " بول ريكور (ت2005Paul Ricoeur( بباريس، مثلما التقيت بها، وخارجها، قبل ذلك، وبعد ذلك، بغيره من العديد من الفلاسفة، ومن غير الفلاسفة، الفرنسيين، وغير الفرنسيين([2])، خاصة أولئك الذين ناصروا، بطريقة، أو بأخرى، ثورتنا التحريرية([3])، وغيرها من القضايا العادلة في العالم، والذين كان الجيل الذي أنتمي إليه ينظر إليهم بإعجاب وبإكبار شديدين.
ولقد تم هذا اللقاء المباشر، الذي لم أكن أدري أنه سيكون الأول والأخير([4]) بمعية الصديق المرحوم "بيير برنار Pièrre Bernard ([5]) بجامعة نانتير(Univ.de Nanterre) التي كان بول ريكور أستاذا فيها، وهذا قبل أن يصبح عميدا لها(1966-1972)...
كما تم هذا اللقاء كذلك في وقت كانت فيه هذه الجامعة تعيش، مثل غيرها من الجامعات الفرنسية، أثار الانتفاضة الطلابية المعروفة " بانتفاضة ماي 1968([6]) وهي الآثار التي مست سنة 1972، بول ريكور، مثلما مست بصورة أو بأخرى، العديد من المثقفين ومن الساسة الفرنسيين([7]).
كانت شهرة بول ريكور قد سبقته، لدي ولدى العديد من أبناء جيلي، لا باعتباره واحدا من الفلاسفة الواعدين في القرن العشرين فحسب، بل وكواحد من الفلاسفة ومن المثقفين الذين ساندوا، وكما سبق أن أشرنا، الكثير من القضايا العادلة في العالم وعلى رأسها الثورة التحريرية الجزائرية. ومن هنا الدلالة الفلسفية والدلالة الإنسانية لحديثي عنه اليوم... وهو الذي احتفت العديد من الجامعات.العربية(بيت الحكمة، تونس 2003) ،وغير العربية به ولا تزال.
أعود إلى بول ريكور لأقول إن مواقفه هذه، مضافا إليها غزارة... وأصلة فكره، وطيبته وتواضعه... هي التي ستكون منذ ذلك الوقت، وإلى اليوم، وراء اهتمامي به وبإنتاجه الفلسفي المتجدد والمجدد([8])
ب ـ فلسفته:
ولأنني لن أتوقف، هنا طويلا للحديث عن هذا الإنتاج، جذورا ومفاهيم وأطروحات... ومواضيع، فذلك ما لا أشك أن معظمكم يعرفه ، فإني سأكتفي بالتالي بالإشارة إلى الملامح والمضامين الكبرى لفلسفته...
لقد تأثرت، وتفاعلت، فلسفة بول ريكور التي تعد واحدة من كبريات فلسفات القرن العشرين، بالعديد من التيارات الفلسفية والفكرية التي سبقتها.. أو عاصرتها، خاصة الفلسفة الظواهرية، ممثلة في إدموند هوسرل). (Ed.Husserl والفلسفة الوجودية، ممثلة في كل من كيركيجارد(S. Kierkegaard ) ، وهيدغر) (M. Heidegger، وغابريال مارسيل ( G. Marcel )l وبالتيار الحيوي ممثلا في برغسونH. Bergson) )، إضافة إلى تاثرها بالتيار البنيوي وبالدين المسيحي، في نزعته البروتستانتية خاصة.
على أن من بين ما يميز فلسفته هذه هي رؤية صاحبها للفلسفة عامة، على أنها أساسا تفلسف، وليست مجرد أطروحات وخطابات نظرية لا صلة لها بالواقع([9] )، فهو يرى أن الفلسفة الجديرة بهذا الاسم هي تلك الحاملة لخطابات متضمنة لمشروع (أو لمشاريع)، معيشي للإنسان قادر علي تجسيد كينونة هذا الأخير في العالم.. وصولا إلى تمكينه من تحقيق حريته وكرامته، بعيدا عن أي إستيلاب كان. (aliénation) ([10]).
ولأن تلك هي الفلسفة في نظر بول ريكور وتلك هي أهم أهدافها، فإنها تأخذ بالتالي ذلك الطابع الأخلاقي الذي يؤكد ريكور، بعد سبنوزا، (Spinoza) أنه لا تصور لأي فلسفة بدونه ([11]).
إن ذلك يعني، من بين ما يعني، أن الفلسفة، في نظر بول ريكور، ليست أنساقا مغلقة([12])(systèmes fermés) أو سلوكات مجردة.. أو تأويلات نظرية لا صلة لها بالواقع الإنساني، أو معرفة علمية، أو عملية، منغلقة على نفسها.. أو على إيدولوجياتها، بل إنها فكر حامل لكل الآمال الإنسانية، ومنهج متفاعل مع كل هموم الإنسانية كذلك، وعامل من أجل تمكين الإنسان من تجاوزها باستمرار... بعيدا عن أي شكوك لا مجدية([13]).
لذلك جاءت فلسفة بول ريكور متضمنة لكل مجالات الحياة الإنسانية، النظرية منها والعملية على حد سواء، وهذا ابتداء من التأويل والتفسير، والتحليل النفسي واللساني، والعلم والسياسة، وانتهاء بالتاريخ والفلسفة، والشعر والتقنية، والإرادة والأخلاق، والعقل والنقل..,الخ..([14]).
كما جاءت فلسفته هذه عاملة بالتالي، من خلال تعدد أطروحاتها.. وتجدد أفكارها.. وإنسانية وأخلاقية أبعادها وأهدافها، عاملة على تمكين الإنسان من التغيير المستمر لذاته.. ولمجتمعه..ولإنسانيته.. نحو الأفضل.. وصولا إلى تحقيق تعاليه([15]) (sa transcendance) انطلاقا من مثوليته (à partir de son immanence)، وأخلاقيته انطلاقا من مسؤوليته.. ومسؤوليته انطلاقا من حريته وكرامته.
بذلك يصبح فعل الفلسفة، عند بول ريكور، هو ذاته فعل الحياة وليس الفعل العائق أو المضاد لها، أو الللامبالي بها، كما يتوهم البعض، أو
يوهمون، لأنه فعل يتمثل أساسا الإستكشاف(l’exploration)والتطوير المستمرين للوجود الإنساني).
ولكي تحقق الفلسفة مثل هذا التحول الإنساني الذاتي(la conversion)، المتجدد والجاد، الجديد والمجدد، لمختلف مناحي الحياة، النظرية منها والعملية، الروحية منها والمادية، فإنها مطالبة، فيما يرى بول ريكور، بالتخلي بالتالي عن متاهات الإيديولوجيات وعن دهاليز النخب([16])(les élites) التي لا تربط غالبيتها بالواقع الاجتماعي أي رابطة تذكر..، وبالتفاعل بالتالي مع الواقع ومع المجتمع، في مختلف مكوناته، وأبعاده ونشاطاته وأهدافه.
بذلك تتحول عملية التفلسف، من مجرد مفاهيم وأنساق نظرية لا صلة لها بالواقع اليومي للإنسان، إلى مرادفة للمعيش اليومي له(le vécu)، ومن مجرد الترديد لهذه الأنساق والإيديولوجيات المنغلقة على ذاتها، والغالقة لكل أمل، إلى" حارسة للمدينة.".، والى حامية للعلم من مخاطر الانزلاق في دروب التطرف واللاأخلاقية، والى مرشدة للإنسان بالتالي الى دروب التجديد والحرية والكرامة والتعايش السلمي والتسامح .. والتضامن..
تلك هي، باختصار شديد، الفلسفة التي ظل بول ريكور يعمل على إقامتها.. وعلى نشرها بين أبناء الإنسانية.. وهذا حتى آخر يوم من أيام حياته.
ج ـ الفلسفة ومسؤولياتها في القرن الحادي والعشرين:
انطلاقا من مفهومه هذا للفلسفة، اطروحات ومناهج، مفاهيم وممارسة، (وهو المفهوم الذي أوضحنا في بحث هو قيد النشر، بعنوان: ما الفلسفة؟ اننا قد لا نتفق كثيرا معه، ومع غيره من الكثير من التعاريف الأخرى للفلسفة، وهذا ابتداء من تعريف فيثاغورس(Pythagore) الى تعريف هيدغرM.Heidegger) )، وغيره)، حدد بول ريكور، مهام هذه الفلسفة في القرن الحادي والعشرين، وذلك في الكلمة التي ألقاها ([17]) بمناسبة تسلمه لجائزة مؤسسة إيناموريInamori)) ([18]) " بكيوطو"(Kyoto) باليابان في سنة 2000([19]).
وفي تحليله لهذه المهام.. يرى بول ريكور أن واقع الفلسفة، خاصة الفرنسية، في القرن العشرين، يجعل من الصعب على الباحث وضع هذه الفلسفة في مجال، أو في خانة، محددة، مثلما يصعب عليه كذلك تصور ما يمكن فعله اليوم بها..
فالفلسفة، وكما يضيف، لا تسهم اليوم في التفكر المدني (la réflexion civique)، كما أنها تحولت إلى معارف جهوية (des savoirs régionaux). والفلسفة لم تعد، منذ زمن، أم المعارف، نظرا لمنافسة العلوم والمعارف الأخرى، غير الفلسفية لها، ومحاولة احتواء خطابها.. الذي كان ذات يوم متضمنا لكل تلك العلوم والمعارف([20]).
من هنا حدة وشمولية أزمة الفلسفة اليوم، وهي الأزمة التي لا يزيدها اليوم تعدد المهام الجسيمة المناطة بها في هذا القرن، الحادي والعشرين، إلا تعقدا.. والتي لا يمكنها تجاوزها إلا بالإجابة الكافية على الأسئلة التي يطرحها عليها الوعي المعاصر حول مسار ومصير الإنسانية ([21]) من جهة، وبتجديد بنائها الأنطولوجي من جهة أخرى وبالتالي ([22]).
انطلاقا من هذا الواقع الذي تعيشه الفلسفة منذ القرن الماضي واليوم، بصورة خاصة، يحدد بول ريكور للفلسفة ثلاث مسؤوليات كبرى([23])
- مسؤوليتها عن حماية التراث الذي خلفه الفكر الإنساني عبر التاريخ ، وعن الاستعمال الأفضل له..
- مسؤوليتها عن الاستمرار في التفتح، خاصة على العلوم الإنسانية والتجريبية، وصولا إلى مواكبة مسارها وتوجيهها وجهة أكثر إنسانية.. بعيدا عن أي غلو.. علماني..أو عقائدي.
- مسؤوليتها عن التوطيد المستمر.. والمتجدد للمسار الأخلاقي والإنساني للإنسان.. بعيدا عن أي تطرف ديني أو عقلي أو أخلاقي .. أو مذهبي.. أو علمي..
تلك هي أهم المسؤوليات التي يحددها بول ريكور للفلسفة في القرن الحادي والعشرين، وهي المسؤوليات التي سبق لكانط ( ت 1804 E. Kant ) أن وضع جذورها الكبرى.. والمتجسدة اليوم، في دورها في العمل على توطيد حقوق الإنسان، وفي ترسيخ قيم الحرية والديمقراطية، والعدالة والأخلاق.. وفي ترشيد وأنسنة العولمة la mondialisation),، والثورة االرقمية اليوم(la
révolution numérique) ،(البيولوجية ،والفيزيائة، والإتصالية والإعلامية)، وتوجيههما وجهة أكثر إنسانية.
أ ليست المهمة الأولى والأخيرة للفلسفة، فيما يرى بول ربكور، هي الإثراء ..والتنوير المستمرين للوجود الإنساني؟.
البخاري حمانه.
المؤتمر الدولي التاسع حول :
الفلسفة و التحولات السياسية و الاجتماعية
بمناسبة اليوم الوطني للفلسفة أيام 26،27،28 أفريل 2012 بجامعة وهران
نشر بمجلة دراسات إنسانية وإجتماعية رابط المقال
https://www.asjp.cerist.dz/en/article/1806
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 18 نوفمبر 2021