
نيتشه: الفلسفة في حضرة "سيلس ماريا" أو الفلسفة في "حضرة الجنوب"
المؤلف: الأستاذ بن دوخة هشام ، جامعة تلمسان
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث : الفلسفة وتاريخ الزمن الحاضر، جامعة وهران2
إن الإبداع الفلسفي داخل آثار "نيتشه" المتأخرة المرافقة لتجربة السفر نحو الجنوب، يكشف كذلك عن إستلهام مفهوم فريد وأصيل. نعني به مفهوم " العود الأبدي للشيء عينه" .(L’éternel retour du même) والذي إن كنا قد لمحنا إلى إمكانية قراءته مناظرا لجدل التاريخ الهيجلي، إلا أننا نعتقد أنه ما يجدر أن نشدد عليه مسبقا، هو أن هذا المفهوم أولا: يعتبر إلتفاتة جديدة إلى صوت الحدس L’intuition)) . وثانيا: "نعتقد أن مفهوم العود الأبدي للشيء عينه" يكشف عن لحظة ذات منتشية بولوجها لعمق جمالية المكان الجنوبي المساعد على الإستجابة للحدس. إذ يكفينا أن نشير أن تلقي هذا المفهوم كان في حضن البحيرة الجنوبية "لسيلس ماريا"(Le Lac de sils- Maria). وربما كان هذا المكان الجنوبي شرطا للإنتباه للحدس، محفزا على الإلتفات إلى إلهام جديد. ثم كيف نفسر تبني مفهوم "العود الأبدي للشيء عينه" في هذا الفضاء sils-Maria بالذات دون أن يحدث ذلك في رحاب الشمال؟. نعتقد أن هذا المفهوم كان بمثابة إشراق جديد Jaillissement) (Un nouveau بالنسبة "لنيتشه" إستطاع من خلاله طرح الكثير من مفاهيم فلسفات الألمان جانبا، كمفهوم التاريخ الجدلي بالنسبة "لهيجل"، والأهم من ذلك أيضا فيما نرى، هو أنه يقدم نموذجا لرؤية جديدة بديلة عن الدين والاهوت. إذ يظهر كذلك هذا المفهوم دعوة إلى تجاوز الدين والاهوت في رؤيتهما للحياة ونظرتهما إلى الإنسان. والعود الأبدي للشيء عينه" يؤبد الحياة في فكرة تقبل الصيرورة الامتناهية، وبالتالي نفهم أنه إذا كان الدين حاملا على الدوام لفكرة الفناء (La Finitude) كنهاية راسخة، فإن " العود الأبدي للشيء عينه" بالتالي إقصاء لهذه الرؤية، وإنفتاح دائم على الحياة لتستعيد من خلاله حلقاتها وتعود من جديد دائما أبدا. ذلك ما يبدولنا أن "العود الأبدي للشيء عينه" يسعى كي يسترجعه: قداسة الحياة. لذلك فهو بالجملة موقف فلسفي وديني على حد سواء، ينقذ الإنسان ويرغبه في الحياة وليس ترغيبا في عالم مفارق شأن الدين أو شأن المثل الأفلاطونية . يكفينا أن ننصت إلى النبرات الحادة التي تنبعث وراء قصيدة " المجد والخلود" (Gloire et éternité) من كتاب " ديثرامب ديونيزوس"(Dithyrambes de Dionysos)، حتى نستشعر مفهوم "العود الأبدي للشيء عينه" بصفته " حدسا" وليس معرفة عقلية :>> (...)أيها الليل !أيها السكونياضجيج الموت !إني أرى رمزامن أبعد الأماكن بعدا،ينزل إلى ببطئ،نجمة الوجود الأعلى ! صورة الأبدية أنت تأتين إلى؟ إنك ضرورية.إن حبي مشتعل إلى الأبد،بالضرورة فقط،يانجمة الوجود الأعلى ! لاتبلغك الأمانيولايعيبك أي رفض،إنك الإقرار الأبدي للوجودوإني الإقرار الأبدي لك لأنني أحبك أيتها الأبدية<< [1]. تبدو لنا هذه الأبيات المفعمة "بالأبدية"، مساعدة لفهم أهمية "العود الأبدي للشيء عينه"، بصفته مفهوما يسعى إلى الحفاظ على الحياة في مواجهة نظريات الجدل التطوري التاريخي وفي مواجهة إفراط الدين المسيحي وفي الآن عينه الميتافيزيقا الغربية التي حصرت سعادة الإنسان في النسيان، نسيانه الحياة !. وبصرف النظر عن يقين " العود الأبدي للشيء عينه"، أو عدم الحاجة إلى تصديق وهم هذه الأبدية كما يفضل البعض، إلا أن ما يهمنا نحن تحديدا، هو أن إرهاصات هذا المفهوم جديرة بأن تقرأ أولا كما نعتقد إنطلاقا من سياق الفضاء الجنوبي التي تمثلت فيه، مع تأكيدنا أن هذا الإكتشاف الجنوبي بالنسبة "لنيتشه"، قد تحول من تحرر مطلق من نسق فلسفات الشمال ومعتقداته الميتافيزيقية إلى حدس مبدع بفضل نفحات الجنوب الحية. وإذا قدر لنا أن نقول أن تجربة الجنوب ساهمت في تحريض إبداع "نيتشه"، فذلك من أجل التأكيد على مسألتين بالغتي الأهمية في نظرنا: أولهما، التحرر من الثقافة الألمانية الكلاسيكية، والبحث عن بديل في رحاب ثقافة الجنوب عن تشاؤم " شوبنهاور" ومسيحية موسيقى "فاغنر". ثم إن إختيار الجنوب فيما يبدو لنا كذلك، هو إختيار الفضاء الحقيقي الذي يجسد الروح الديونيزوسية، بما هي روح مفعمة بمحبة الضوء والمرح والإنتشاء.وثانيهما، إن مفهوم " الفلسفة في أوج الظهيرة " (La philosophie au plein Midi)، لا يجد نموذجه في فلسفة " هيجل" وبومته، بل في رموز تمت بصلة مباشرة مع جغرافيا الجنوب، وهي ما تلخص هذا المعنى الجنوبي الذي قصدناه، كونه يفرز عن ثقافة الاتشاؤم والاعزاء أمام طابع الوجود. ذلك هو بالذات الدرس إن صح لنا نعت ذلك بهذا المصطلح البيداغوجي الذي إستوعبه " نيتشه" من تجربة الجنوب، القدرة على تأكيد الحياة التي تحولت بالنسبة إليه وبفضل محددات هذه الثقافة الجديدة إلى تجربة للتحول والإبداع. وذلك أيضا ما نعتقد أنه يبرر بشكل صريح الإنتقال من الضباب إلى الشمسDu brouillard au soleil) )، فهو في هذا التحول يلخص فهما جديدا للحياة، رؤية للحياة جديدة، قائمة على الإبتهاج والمرح، في مقابل الفهم الشمالي والطرح الرومانسي، الذي ينتهي فيما نعتقد برؤية إنهزامية وتشاؤمية تبدو فرارا من الحياة . فالقراءة الأصيلة لتجربة الجنوب نعتقد أنها ينبغي أن تفهم كونها نتاج عن تلك المزاوجة بين حوار "نيتشه" مع ثقافة "نيتشه"- الألمان- ، ثم إكتشاف محددات لثقافة رديفة لمعنى القدرة على محبة الحياة ومحرضة بالتالي على إعادة إبداع مفاهيم جديدة ضد المفاهيم العدمية. بهذا المعنى فحسب يتسنى لنا فهم الإقبال على الجنوب الذي يصر "نيتشه" أن يضعه في مقابل الشمال.
[1]- Nietzsche (F), Dithyrambes de Dionysos, Trad.de L’allemand par Henri Albert, Trad.révisée par Jean Lacoste, In Friedrich Nietzsche Œuvres, Edition Robert Laffont, Paris, 1993, « Gloire et éternité », pp.1254-1255.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 25 جوان 2022